(الصفحة 389)
ومنها: ما أفاده المحقّق الحائري
(قدس سره)
في كتاب الدرر(1) في مقام الجمع، من حمل أخبار التوقّف على التوقّف في مقام الرأي والإفتاء، وأخبار التخيـير على التخيـير في العمل.
ويرد عليـه:
أنّـه كما يستفاد من أدلّـة التخيـير جواز العمل بكل واحد من الخبرين، كذلك يوجد في أخبار التوقّف ما ظاهره النهي عن العمل بشيء منهما لا النهي عن الرأي والإفتاء، فراجع، فهذا الجمع أيضاً ممّا لا شاهد لـه.
وا لذي يمكن أن يقا ل في مقام ا لجمع :
إنّ أدلّـة التخيـير صريحـة في جواز الأخذ بكلّ من الخبرين، فإنّ قولـه (عليه السلام):
«فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2)، صريح في التوسعـة وجواز الأخذ بكلّ منهما. وأمّا أخبار التوقّف فليس فيها ما كان نصّاً في ذلك، بل غايتـه الظهور في التوقّف وعدم الأخذ بشيء منهما، والظاهر لا يقاوم النصّ، فيحمل أخبار التوقّف على الاستحباب، لصراحـة أخبار التخيـير في الجواز.
وهنا وجوه اُخر من الجمع
،
مثل حمل أخبار التخيـير على العبادات وأخبار الإرجاء على المعاملات، أو حمل أخبار الإرجاء على صورة عدم الاضطرار إلى العمل بأحدهما، وأخبار التخيـير على ما إذا لم يكن لـه بدّ من العمل بأحدهما، وذكر أكثر هذه الوجوه العلاّمـة المجلسي (قدس سره)
في كتاب مرآة العقول(3).
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 657.
- 2 ـ الاحتجاج 2: 264 / 233، وسائل الشيعـة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث40.
- 3 ـ مرآة العقول 1: 218 ـ 219.
(الصفحة 390)
وقد استدلّ لبعض هذه الوجوه بروايـة الميثمي الطويلـة التي أوردها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب كتاب القضاء(1) ولكنّها لا دلالـة لها على التخيـير الذي هو المقصود في المقام، لأنّـه حكم ظاهري والتخيـير الذي يدلّ عليـه هذه الروايـة هو التخيـير الواقعي، لأنّ مورده النهي التنزيهي مع دليل الرخصـة أو الأمر غير الإلزامي مع ذلك الدليل.
ومن المعلوم أنّ التخيـير في مثل هذه الموارد تخيـير واقعي، كما هو واضح.
نعم ذيلها يدلّ على التوقّف والتثبّت حتّى يأتي البيان من ناحيتهم، فهذه الروايـة أيضاً من أخبار التوقّف، ولابدّ من علاج التعارض بينها وبين أخبار التخيـير فتأمّل جيّداً.
تنبيهات
وينبغي التنبيـه على اُمور:
التنبيه الأوّل
: في معنى التخيير في المسأ
لة الاُصولية
لا ينبغي الارتياب في أنّ المستفاد من أخبار التخيـير هوالتخيـير في المسألـة الاُصوليـة، ومرجعـه إلى كون المتحيّر مخيّراً في الأخذ بأحد الخبرين والمعاملـة معـه معاملـة الحجّـة، كما لو كان بلا معارض، إنّما الإشكال في
- 1 ـ وسائـل الشيعـة 27: 113، كتاب القضاء، أبـواب صفـات القاضـي، الباب9، الحديث21.
(الصفحة 391)
ما يرجع إليـه حقيقـة التخيـير بعدما عرفت(1) من كون مقتضى القاعدة العقلائيـة في مقام التعارض تساقط الخبرين وسقوط الحجّتين والطريقين.
قد يقال بأنّ مرجع جعل التخيـير إلى جعل الطريقيّـة عند التعارض.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ أصل جعل الطريقيّـة والكاشفيـة ولو مع عدم التعارض غير معقول، لأنّ الكاشفيّـة من الاُمور التكوينيّـة واللوازم العقليّـة للكاشف ولا يعقل تعلّق الجعل الشرعي بها ـ أنّـه إن كان المراد جعل الطريقيّـة لكلا الخبرين فهو مستحيل بعد فرض التعارض وعدم إمكان الاجتماع، ضرورة أنّـه لو لم يكن مستحيلا لما كان العقل يحكم بالتساقط، كما هو واضح.
وإن كان المراد جعل الطريقيّـة لأحد الخبرين بالخصوص، فمضافاً إلى أنّـه لا مرجّح في البين، مناف لمقتضى الأدلّـة، حيث إنّها تدلّ على التخيـير لا الأخذ بخصوص واحد منهما، وإن كان المراد جعلها لأحدهما غير المعيّن فمن الواضح أنّ أحدهما لا على سبيل التعيـين ليس شيئاً وراء كلا الخبرين، ضرورة أنّـه ليس هنا أمر آخر في البين، وقد عرفت استحالـة جعل الطريقيـة لكليهما أو واحد معيّن منهما، هذا.
وقد يقال بأنّ التخيـير المجعول في الخبرين المتكافئين هو حكم ظاهري مجعول عند الشكّ وفي مورد التحيّر، ويؤيّده ما في بعض الروايات المتقدّمـة من ترتيب الحكم بالتوسعـة على ما إذا لم يعلم، فهو أيضاً كسائر الاُصول المعتبرة في موارد الشكّ.
ولازم هذا القول الاقتصار في مقام الأخذ بأحد الخبرين على مجرّد
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 379.
(الصفحة 392)
مدلولـه المطابقي دون لازمـه، لعدم حجّيـة اللوازم ولا الملزومات في باب الاُصول، كما عرفت.
والتحقيق في المقام أن يقال:
إنّ الحكم بالتخيـير في المتعارضين ليس حكماً ثانويّاً وراء الحكم بحجّيـة كلّ واحد من الخبرين إمضاءً لحكم العقلاء وبنائهم على العمل بخبر الواحد.
غايـة الأمر أنّ مرجعـه إلى تخطئـة العقلاء في حكمهم بالتساقط مع التعارض، ومرجعـه إلى أنّـه كما كان الواجب عليكم الأخذ بالخبر والتعبّد بمضمونـه وجعلـه حجّـة وطريقاً إلى الواقع مع عدم التعارض مع الخبر الآخر، كذلك يجب عليكم في مقام التعارض أيضاً الأخذ. غايـة الأمر أنّـه حيث لا يكون ترجيح في البين يتخيّر المكلّف في الأخذ بكلّ واحد منهما، فهذا الأخذ لا يكون مغايراً للأخذ بالخبر مع عدم المعارضـة أصلا، وحينئذ لا فرق بينهما من جهـة حجّيـة اللوازم والملزومات.
والدليل على ما ذكرنا: أنّ الظاهر عدم الفرق فيما يرجع إلى معنى الأخذ بين المتكافئين والمتعارضين مع ثبوت المزيّـة لأحدهما، فكما أنّ الأمر بأخذ ذي المزيّـة ليس حكماً آخر وراء الحكم بحجّيـة الخبر، فكذلك الأمر بأخذ أحد الخبرين مع التكافؤ، فإنّـه ليس أيضاً حكماً آخر ناظراً إلى جعل الطريقيّـة وجعل حكم ظاهري، كما هو واضح.
ويرد عليـه: أنّ تخطئـة حكم العقلاء وإن كان بمكان من الإمكان، ولكن لامجال لتخطئـة حكم العقل. وقد عرفت(1) أنّ التساقط مقتضى حكم العقل
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 379.
(الصفحة 393)
أيضاً، وعليـه فيبقى الإشكال بحالـه. والظاهر أنّ الالتزام بالحكم الظاهري والأصل العملي لا مانع منـه واقتضائـه عدم الأخذ بغير المدلول المطابقي وعدم حجّيـة اللوازم، ومثلها ممنوع بعد كون التخيـير هو الأصل العملي والمخيّر فيـه هو الأخذ بكلّ واحد من الخبرين بجميع مداليلـه ولوازمـه ومثلها، ولا مانع من عدم حجّيـة المثبت وكون المخيّر فيـه مطلق الأخذ.
التنبيه الثاني : في حكم تخيير القاضي والمفتي في عمله وعمل مقلّديه
إنّـه بعدما عرفت من كون التخيـير الذي يدلّ عليـه أخباره هو التخيـير في المسألـة الاُصوليّـة، فهل يجوز للمجتهد الفتوى بالتخيـير في المسألـة الفرعيّـة الراجع إلى كون المقلّد مخيّراً في مقام العمل، أم التخيـير ينحصر بالمجتهد ويجب عليـه الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقـه؟ وجهان.
قد يقال: بانحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بخصوص المجتهد نظراً إلى أنّـه هو الذي يتحقّق عنده موضوع تلك الخطابات، لأنّـه هو الذي يشكّ في الحكم الفلاني بالشبهـة الحكميّـة، وهو الذي يجيء عنده الخبران المتعارضان، وغير ذلك من الموضوعات، ومع انحصار تحقّق الموضوع بـه لاتكون تلك الخطابات شاملـة لغيره، هذا.
ولكن الظاهر خلافـه، لأنّ مجرّد كون المقلّد غير مشخّص لموضوعات تلك الخطابات لا يوجب انحصارها بالمجتهد، بل يمكن أن يقال: بأنّ المجتهد يشخّص الموضوع للمقلّد ويفتي بمضمون تلك الخطابات. فبالنتيجـة يكون جريانها في ذلك الموضوع عند المقلّد، فالمجتهد يعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعـة كانت واجبـة