(الصفحة 394)
في عصر ظهور أئمّـة النور (عليهم السلام) والآن مشكوك الوجوب، ويفتي بأنّ كلّ شيء كذلك يحرم نقض اليقين فيـه بالشكّ على ما هو مدلول خطابات الاستصحاب، فالمقلّد حينئذ يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بوجوبها في هذه الأعصار أيضاً وإن كانت الشبهـة حكميّـة.
وإن شئت قلت: إنّ مورد الاستصحاب لا يختصّ بما إذا كان يقين وجداني، بل مورده أعمّ منـه وممّا إذا قامت أمارة معتبرة، وإلاّ لكان مورده في غايـة القلّـة خصوصاً بالنسبـة إلى الشبهات الحكميّـة. ومن الواضح أنّ فتوى المجتهد من الأمارات المعتبرة، فإذا علم المقلّد بوجوب صلاة الجمعـة في عصر الظهور والشكّ في هذه الأعصار يحصل للمقلّد أمارة معتبرة عليـه والشكّ، فيتحقّق عنده موضوع الاستصحاب ويحكم بجريانـه على تقدير كون المجتهد ممّن يقول باعتباره. فدعوى انحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بالمجتهد ممنوعـة جدّاً.
وممّا ذكرنا يظهر: أنّ المجتهد عند تعارض الخبرين عنده يتخيّر بين الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقـه، لأنّك عرفت أنّـه ليس المراد بالأخذ هو الأخذ بالنسبـة إلى العمل فقط، بل الأخذ مطلقاً كالأخذ بالخبر مع عدم المعارض لـه، وبين إعلام المقلّد بالحال وأنّ هذا المورد ممّا ورد فيـه الخبران المتعارضان وحكمـه التخيـير في الأخذ، وبين الفتوى بالتخيـير في مقام العمل من دون إعلامـه بالحال.
أمّا الأوّل والثاني فواضحان، وأمّا الثالث، فلأنّ التخيـير على ما عرفت حكم طريقي، ومرجعـه إلى جواز أخذ كلّ من الخبرين طريقاً وأمارة، فلا مانع من الفتوى بالتخيـير، فتأمّل جيّداً.
(الصفحة 395)التنبيه الثالث : في أنّ التخيير بدوي أو استمراري
هل التخيـير بدوي مطلقاً، أو استمراري كذلك، أو تفصيل فيـه بين ما إذا كان في المسألـة الاُصوليّـة فبدوي وبين ما إذا كان في المسألـة الفقهيّـة فاستمراري، أو تفصيل فيـه بعد فرض كونـه في المسألـة الاُصوليّـة بين ما إذا قيل باختصاص الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بالمجتهد، فالتخيـير بدوي، وبين ما إذا قيل بعدم الاختصاص فاستمراري؟
وجوه واحتمالات أربعـة، والمستند هو الأخبار الواردة في التخيـير ومع قصورها فالاستصحاب، وتوضيح الحال: أنّـه أفاد الشيخ (قدس سره)
في الرسالـة أنّ مستند التخيـير إن كان هو الأخبار الدالّـة عليـه فالظاهر أنّها مسوقـة لبيان وظيفـة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبـة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما(1)، انتهى.
ويمكن تقريبـه بأنّ هنا أمران:
أحدهما: وظيفـة المتحيّر عند مجيء الخبرين المتعارضين عنده.
وثانيهما: وظيفتـه بعد الأخذ بأحدهما، والسؤال عن هذه الوظيفـة إنّما يصحّ مع ثبوت أصل وظيفـة المتحيّر في ابتداء الأمر ووضوحـه عند السائل. ومن المعلوم كما نراه أنّ الروايات الواردة في التخيـير ليس فيها إلاّ سؤال وجواب واحد، وهو السؤال عن أصل وظيفـة المتحيّر ابتداءً والجواب عنـه، أو بيان أمر واحد وحكم فارد، هذا.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 764.
(الصفحة 396)
ويرد عليـه: أنّـه يمكن أن يستفاد من كثير من الأخبار الواردة في التخيـير كونـه استمراريّاً، والعمدة من ذلك روايتان:
إحداهما: ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا (عليه السلام) قلت: يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقـة ـ بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟
قال (عليه السلام):
«فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخـذت»(1)، فإنّ تعليق الحكم بالتوسعـة على مجـرّد الجهل وعـدم العلم خصوصاً مـع إعادتـه في الجواب مع كونـه مذكوراً في السؤال يدلّ على أنّ تمام الموضوع للحكم بالتوسعـة هو مجرّد الجهل بالواقع وعدم العلم والتردّد الناشئ من مجيء الحديثين المختلفين. ومن الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما، لأنّ الأخذ بـه لا يوجب العلم بالواقع أو قيام أمارة عليـه التي لابدّ من الأخذ بها.
وقد عرفت أنّ التخيـير وظيفـة مجعولة في مقام الشـكّ والـتحيّر، وليس مرجعـه إلى كون المأخوذ من الخبرين أمارة تعبّديـة في صورة التعارض حتّى يكون قيام الأمارة رافعاً لموضوع الحكم بالتوسعـة تعبّداً، بل التحقيق أنّـه مع التخيـير والأخذ بأحد الخبرين لا يرتفع التحيّر والتردّد مـن البين، والمفروض أنّـه الموضوع الفريد للحكم بالتوسعـة وجواز الأخذ بما شاء من الخبرين.
ثانيتهما: روايـة الحـرث بن المغيرة عـن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال (عليه السلام):
«إذا سمعت من أصحابك الحديث ـ وكلّهم ثقة ـ فموسّع عليك حتّى ترى القائم (عليه السلام)فتردّ إليه»(2).
- 1 ـ الاحتجاج 2: 264 / 233، وسائل الشيعـة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث40.
- 2 ـ الاحتجاج 2: 264 / 234، وسائل الشيعـة 27: 122، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث41.
(الصفحة 397)
وهذه الروايـة وإن كان ربّما يناقش في دلالتها على التخيـير في المتعارضين، لعدم التعرّض لهما في الموضوع، بل موضوع الحكم بالتوسعـة مطلق الحديث، إلاّ أنّ التمسّك بها لمكان كونها من أدلّـة التخيـير عند الشيخ (قدس سره)
القائل بهذه المقالـة، وهي قصور أدلّـة التخيـير عن الدلالـة لحال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما، هذا.
مضافاً إلى أنّـه يمكن أن يستفاد من التعبير بالتوسعـة المستعملـة في سائر روايات التخيـير كون الموضوع هو المتعارضين، وإلى أنّ إطلاقـه لهما يكفي لنا، كما لايخفى.
وكيف كان: فدلالتها على استمرار التخيـير أوضح من الروايـة السابقـة، لأنّـه جعل الغايـة للحكم بالتوسعـة هي رؤيـة القائم (عليه السلام) والردّ إليـه، فتدلّ على بقائـه مع عدم حصول الغايـة، سواء كان في ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرين، كما لايخفى. فانقدح: أنّـه لا مجال لدعوى الإهمال في جميع الروايات الواردة في باب التخيـير.
وأمّا الاستصحاب فنقول: الشكّ في الاستمرار قد يكون مع فرض اختصاص التخيـير بخصوص المسألـة الاُصوليّـة، وقد يكون لأجل الشكّ في أنّ التخيـير في المسألـة الاُصوليّـة أو في المسألـة الفرعيّـة، وقد يكون لأجل الشكّ في أنّـه مع كون التخيـير في المسألـة الاُصوليّـة هل الخطابات الواردة فيها مختصـة بالمجتهد أو تعمّ المقلّد؟
فعلى الأوّل لابدّ من ملاحظـة ما جعل في الأخبار موضوعاً للحكم بالتخيـير، فنقول: يحتمل فيـه وجوه أربعـة:
(الصفحة 398)
أحدها: أن يكون الموضوع هو شخص المكلّف فيما إذا لم يعلم بما هو الحقّ من الخبرين المتعارضين.
ثانيها: أن يكون الموضوع هو من لم يعلم حقيّـة واحد منهما.
ثالثها: أن يكون الموضوع هو المتحيّر بما هو المتحيّر.
رابعها: أن يكون الموضوع خصوص من لم يختر أحد الخبرين، كما يظهر من الشيخ (قدس سره)
(1).
فعلى الأوّلين لا مانع من الاستصحاب، لبقاء الموضوع المأخوذ في الدليل بعد الأخذ أيضاً، وعلى الأخيرين أيضاً لا مانع منـه، لأنّـه بعدما صار الشخص الخارجي مورداً للحكم بالتخيـير نقول: هذا الشخص كان مخيّراً والآن نشكّ في بقاء تخيـيره، فهو بعد باق عليـه، نظير الاستصحاب الجاري في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسـه، كما أومأنا إليـه مراراً. وعلى الثاني والثالث يصير هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثاني من الأقسام الثلاثـة من استصحاب الكلّي، كما لايخفى.
فانقدح من جميع ما ذكرنا دلالـة الأدلّـة من الأخبار والاستصحاب على كون التخيـير استمراريّاً.
ثمّ إنّـه قد يناقش في جريان الاستصحاب بناءً على الوجـه الثاني وكذا الثالث، نظراً إلى ما ذكرناه في باب الاستصحاب الكلّي من أنّ استصحاب الكلّي إنّما يجري إذا كان ذلك الكلّي مجعولا شرعيّاً أو موضوعاً لترتّب أثر شرعي.
فيقال حينئذ: إنّ التخيـير الجامع بين البدوي والاستمراري لا يكون أمراً مجعولا من الشارع، لأنّ المجعول الشرعي إمّا خصوص التخيـير البدوي، وإمّا
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 764.