(الصفحة 479)
دليل جامع لشرائط الحجّيـة يدلّ على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبـه على رأي المجتهد، فها هي الأدلّـة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّى تعرف صدق ما ذكرناه.
أو استصحاب الأحكام الواقعيّـة، فلاشكّ في بقائها، لأنّها لو تحقّقت أوّلا فلاشكّ في أنّها متحقّقـة في الحال أيضاً، لأنّ الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشكّ في النسخ، أو الشكّ في فقدان شرط، كصلاة الجمعـة في زمان الغيبـة، أو حدوث مانع، والفرض أنّـه لاشكّ من هذه الجهات.
أو الأحكام الظاهريّـة; بدعوى كونها مجعولـة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب سائر الأمارات، فهو أيضاً ممنوع، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلّـة على خلافها، لأنّ الظاهـر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، والمرتكز لديهم هو أماريّـة رأي المجتهد للواقع كأماريّة رأي كلّ ذي صنعة إلى الواقع في صنعتـه.
وبالجملـة: لابدّ في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم، وليس في المقام شيء قابل لـه، أمّا الحكم الشرعي فمفقود، لعدم تطرّق جعل وتأسيس من الشارع، وأمّا ما لدى العقلاء من حجّيـة قول أهل الخبرة، فلعدم كونـه موضوعاً لحكم شرعي، بل هو أمر عقلائي يتنجّز بـه الواقع بعد عدم ردع الشارع إيّاه، وأمّا إمضاء الشارع وارتضائـه لما هو المرتكز بين العقلاء فليس حكماً شرعيّاً حتّى يستصحب تأمّل بل لا يستفاد من الأدلّـة إلاّ الإرشاد إلى ما هو المرتكز، فليس جعل وتأسيس، كما لايخفى.
إن قلت: بناءً عليـه ينسدّ باب الاستصحاب في مطلق مؤدّيات الأمارات، فهل فتوى الفقيـه إلاّ إحداها؟! مع أنّـه حقّق في محلّـه جريانـه في مؤدّياتها، فكما يجري فيها لابدّ وأن يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيـه.
(الصفحة 480)
قلت: هذه مغالطـة نشأت من خلط الشكّ في بقاء الحكم، والشكّ في بقاء حجّيـة الحجّـة عليـه، فإنّ الأوّل مجرى الاستصحاب دون الثاني، فإذا قامت الأمارة أيّـة أمارة كانت على حكم، ثمّ شكّ في بقائـه لأحد أسباب طروّ الشكّ كالشكّ في النسخ يجري الأصل، لما ذكرنا في الاستصحاب من شمول أدلّتـه مؤدّيات الأمارات أيضاً، وأمّا إذا شكّ في أمارة بعد قيامها على حكم وحجّيتها في بقاء الحجّيـة لها في زمان الشكّ فلا يجري فيها، لعدم الشكّ في بقاء حكم شرعي كما عرفت. فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة وحكمها، على الاستصحاب في مؤدّاها، مع الفارق; فإنّ المستصحب في الثاني هو الحكم الواقعي المحرز بالأمارة دون الأوّل.
إن قلت: بناءً على عدم استـتباع قيام الأمارات ـ فتوى الفقيـه كانت أو غيره للحكم يلزم عدم تمكّن المكلّف من الجزم في النيّـة وإتيان كثير من أجزاء العبادات وشرائطها رجاءً وهو باطل، فلابدّ من الالتزام باستـتباعها الحكم لتحصيل الجزم فيها.
قلت أوّلا: لا دليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره، ودعوى الإجماع ممنوعـة في هذه المسألـة العقليّـة.
وثانياً: إنّ الجزم حاصل لما ذكرنا من أنّ احتمال الخلاف في الطرق العقلائيّـة مغفول عنـه غالباً، ألا ترى أنّ جميع المعاملات الواقعـة من ذوي الأيادي تقع على سبيل الجزم، مع أنّ الطريق إلى ملكيّتهم هو اليد التي تكون طريقاً عقلائيّاً، وليس ذلك إلاّ لعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلا بحسب الغالب.
وثالثاً: إنّ المقلّدين الآخذين بقول الفقهاء لا يرون فتاويهم إلاّ طريقاً إلى
(الصفحة 481)
الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم ليس إلاّ بملاحظـة طريقيتها إلى الواقع وكاشفيتها عن أحكام اللّه الواقعيّـة كعملهم على طبق رأي كلّ خبرة فيما يرجع إليـه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استـتباع فتاويهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجـه حتّى يكون الجزم باعتباره. فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصّلا للجزم; ضرورة كون هذا الاستـتباع مغفولا عنـه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام وفتاويهم طريق إلى الواقع.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جار، لفقدان المستصحب، أي الحكم أو الموضوع الذي لـه حكم.
وغايـة ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال:
أنّ احتياج الفقيـه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيـه لرأي الميّت، وأمّا مع توافقهما فيجوز لـه الإفتاء بالأخـذ برأي الميّت، لقيام الدليل عنده عليـه، وعدم الموضوعيّـة للفتوى والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقـة رأي فقيـه حي لجميع ما في رسالـة فقيـه ميّت يجوز لـه الإرجاع إلى رسالتـه من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّتـه، فما يحتاج فـي الحكم بجـواز البقاء إلى الاستصحـاب هـو موارد اختلافهما.
فحينئذ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغـه مجتهدين حيّين متساويـين في العلم مختلفين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيـه، مع أنّـه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضي تساقطهما، فالحكم بالتخيـير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلاّ بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة
(الصفحة 482)
المستمرّة إلى زمن الأئمّـة (عليهم السلام) كما هي ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخيـيري، وهذا الاستصحاب جار في الابتدائي والاستمراري.
نعم جريانـه في الابتدائي الذي لم يدركـه المكلّف حيّاً محلّ إشكال، لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتّى يستصحب، فما ذكرنا في التفصّي عن الإشكال الأوّل في الباب من استصحاب الحكم الثابت للعنوان إنّما هو على فرض ثبوت الحكم لـه، وهو فرض محض.
فتحصّل ممّا ذكرنا تفصيل آخر: وهو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك المكلّف مجتهده حال بلوغـه وبين الابتدائي المدرك كذلك والاستمراري.
هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقاً تصير النتيجـة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري، هذا كلّـه حال الاستصحاب.
حال بناء القعلاء في تقليد الميّت
وأمّا بناء العقلاء فمحصّل الكلام فيـه: أنّـه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء وحكم العقل بين فتوى الحي والميّت، ضرورة طريقيّـة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما، لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما لا يكفي في جواز العمل، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحي، وتعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائـه، وإلاّ فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت وإن لم يتفاوت في ارتكازهم مع الحي لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاءالشارع.
(الصفحة 483)
والحاصل: أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّـة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً أو كشفـه عن عدم الردع، وليس ما يدلّ لفظاً عليـه، والكشف عن عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم، ومع عدمـه لا محلّ لردع الشارع ولا يكون سكوتـه كاشفاً عن رضاه.
فحينئذ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحي، ويمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياتـه ثمّ مات، ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم ما يحتاج إليـه من الحي، يرى نفسـه عالماً، فلا داعي لـه من الرجوع إلى الآخر، بل يمكن إثبات ذلك من الروايات كروايـة علي بن المسيّب المتقدّمـة(1).
فإنّ إرجاعـه إلى زكريّا بن آدم ـ من غير ذكر حال حياتـه وأنّ ما يأخذه منـه في حال الحياة لا يجوز العمل بـه بعد موتـه، مع أنّ في ارتكازه وارتكاز كلّ عاقل عدم الفرق بينهما ـ دلالـة على جواز العمل بما تعلّم منـه مطلقاً، فإنّ كون شقّتـه بعيدة بحيث إنّـه بعد رجوعـه إلى شقّتـه كان يصير منقطعاً عن الإمام (عليه السلام)في مثل تلك الأزمنـة، كان يوجب عليـه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطاً. واحتمال أنّ رجوع علي بن المسيّب إليـه كان في نقل الروايـة، يدفعـه ظهور الروايـة، ومثلها مكاتبـة أحمد بن حاتم وأخيـه(2).
وبالجملـة: إرجاع الأئمّـة (عليهم السلام) في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء عموماً وخصوصاً ـ مع خلوّها عن اشتراط الحياة ـ كاشف عن ارتضائهم بذلك.
- 1 ـ تقدّمت في الصفحة 462.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحـة 461.