(الصفحة 503)
قلنا: هذا خلاف المفروض، وإلاّ فلا يبقى مجال للشكّ لـه في هذه المسألـة، ففرض الشكّ فيما لم يقلد عن الحي فيها.
هذا مضافاً إلى أنّ مطلق كون الشكّ مسبّباً عن الآخر، لا يوجب التحكيم، كما قرّرنا في محلّـه(1) مستقصى، وملخّصـه: أنّ وجـه تقدّم الأصل السببي أنّ الأصل في السبب منقّح لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليـه بعد التنقيح، والدليل الاجتهادي بلسانـه حاكم على الأصل المسبّبي، فإذا شكّ في طهارة ثوب غسل بماء شكّ في كرّيتـه فاستصحاب الكرّيـة ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي الدالّ على أنّ ما غسل بالكرّ يطهر، وهو حاكم على الأصل المسبّبي بلسانـه.
وإن شئت قلت: إنّـه لا مناقضـة بين الأصل السببي والمسبّبي، لأنّ موضوعهما مختلفان، والمناقض للأصل المسبّبي إنّما هو الدليل الاجتهادي بعد تنقيح موضوعـه حيث دلّ بضمّ الوجدان وتطبيقـه على الخارج «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» والاستصحاب في المسبّبي مفاده «أنّ هذا الثوب المشكوك في نجاستـه وطهارتـه نجس» ومعلوم أنّ لسان الأوّل حاكم على الثاني.
وتوهّم: أنّ مقتضى الأصل السببي هو ترتيب جميع آثار الكرّيـة على الماء، ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب.
مدفوع أوّلا: بأنّ مفاد الاستصحاب ليس إلاّ عدم نقض اليقين بالشكّ، فإذا شكّ في كرّيـة ماء كان كرّاً لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب إلاّ التعبّد بكون الماء كرّاً، وأمّا لزوم ترتيب الآثار فبدليل آخر وهو الدليل الاجتهادي.
- 1 ـ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 243 ـ 246.
(الصفحة 504)
والشاهد عليـه ـ مضافاً إلى ظهور أدلّتـه ـ أنّ لسان أدلّتـه في استصحاب الأحكام والموضوعات واحد، فكما أنّ استصحاب الأحكام ليس إلاّ البناء على تحقّقها لا ترتيب الآثار، فكذلك استصحاب الموضوعات. نعم لابدّ في استصحابها من دليل اجتهادي ينقّح موضوعـه بالاستصحاب.
وثانياً: بأنّ لازم ذلك عدم تقدّم السببي على المسبّبي، فإنّ قولـه: «كلّما شككت في بقاء الكرّ فابنِ على طهارة الثوب المغسول بـه» لا يقدّم على قولـه: «إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي فابنِ على نجاستـه» ولا يراد باستصحاب نجاسـة الثوب سلب الكرّيـة، حتّى يقال: إنّ استصحاب النجاسـة لا يسلبها إلاّ بالأصل المثبت، بل يراد إبقاء النجاسـة في الثوب فقط، ولا يضرّ في مقام الحكم الظاهري التفكيك بين الآثار، فيحكم ببقاء كرّيـة الماء وبقاء نجاسـة الثوب المغسول بـه.
إذا عرفت ذلك اتّضح لك عدم تقدّم الأصل في المسألـة الاُصوليّـة على الفرعيـة، لعدم دليل اجتهادي موجب للتحكيم، ومجرّد كون مفاد المستصحب في الاُصوليّـة «أنّـه لا يجوز العمل بفتاواي عند الشكّ» لا يوجب التقدّم على ما كان مفاده «يجوز العمل بفتاواي الفرعيـة لدى الشكّ» فإنّ كلاّ منهما يدفع الآخر وينافيـه.
وممّا ذكرناه يظهر النظر في ما أفاده من حكومـة استصحاب حجّيـة الفتوى في المسألـة الاُصوليّـة على استصحاب حجّيتها في المسائل الفرعيّـة، فإنّ البيان والإيراد فيهما واحد لدى التأمّل. هذا مضافاً إلى ما تقدّم(1) من عدم جريان
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 478.
(الصفحة 505)
استصحاب الحجّيـة; لا العقلائيّـة منها ولا الشرعيّـة.
ومنها:
أنّ ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الاُصوليّـة ولو اُريد استصحاب الحكم الظاهري بجهـة تعليليّـة، غير وجيـه وإن قلنا بتقديم الأصل السببي في الفرض المتقدّم على الأصل المسبّبي; لأنّ نفي المعلول باستصحاب نفي العلّـة مثبت وإن كانت العلّـة شرعيّـة، فإنّ ترتّب المسبّب على السبب عقلي ولو كان السبب شرعيّاً.
نعم لو ورد دليل على «أنّـه إذا وجد ذا وجد ذاك» لا يكون الأصل مثبتاً، كقولـه: «إذا غلى العصير أو نشّ حرم» وهو في المقام مفقود.
ومنها:
أنّ بنائـه على جريان استصحاب الكلّي الجامع بين الحكم الظاهري والواقعي غير وجيـه:
أمّا أوّلا: فلما مرّ من عدم الشكّ في بقاء الحكم الواقعي.
وثانياً: أنّـه بعـد فرض حكومـة الأصل السببي على المسبّبي يسقط الحكم الظاهري، وبسقوطـه لا دليل فعلا على ثبوت الحكم الواقعي، لسرايـة الشكّ إلى السابق كما مرّ منـه (قدس سره)
فلا يقين فعلا على الجامع بينهما، فاستصحاب الكلّي إنّما يجري إذا علم بالجامع فعلا وشكّ في بقائـه، وهـو غير نظير المقام الذي بانعدام أحد الفردين ينعدم الآخر مـن الأوّل، إذ ينعدم الدليل على ثبوتـه مـن الأوّل، هذا مع الغضّ عن الإشكال في استصحاب الجامع في الأحكام كما مرّ منّا كراراً.
ومنها:
أنّ إنكـاره جريـان الاستصحاب فـي المسألـة الاُصوليّـة، معلّلا بأنّـه يلزم من جريانـه الأخذ بخلاف مفاده، ومثلـه غير مشمول لأدلّتـه، غير وجيـه; لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّيـة الفتاوى الفرعيّـة، وهو غير
(الصفحة 506)
اعتبار فتاواه ولا لازمـه ذلك ولا الأخذ بفتوى الحي، لإمكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجّيـة.
وبالجملـة: سقوط الفتاوى عن الحجّيـة أمر جاء من قبل الاستصحاب، والرجوع إلى الحي أمر آخر غير مربوط بـه وإن كان لازم الرجوع إليـه البقاء على قول الميّت. والعجب أنّـه (قدس سره)
تنبّـه على هذا الإشكال ولم يأت بجواب مقنع.
ولو ادّعى انصراف أدلّـة الاستصحاب من مثل المقام لكان انصرافها عن الأصل السببي وعـن الأصليـن المتعـارضين أولى، لأنّ إجـراء الاستصحـاب للسقوط أسوء حـالا من إجرائـه في مـورد كـان المكلّف ملـزماً بالأخـذ بدليل آخـر مقابـل لـه فـي المفاد. والحـلّ في الكـلّ أنّـه لا فـرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد وبين ما شملها بإطلاقـه، والإشكال متّجـه فيها على الأوّل لا الثاني.
ومنها:
أنّ ما ذكره أخيراً في وجـه عدم جريان الاستصحاب في المسألـة الاُصوليّـة من أنّ المفتي الحي كان يرى خطأ الميّت، إنّما يصحّ لو كان المفتي أراد إجراء الاستصحاب لنفسـه، وقد فرض في صدر المبحث أنّـه نزّل نفسـه منزلـة العامّي في الشكّ في الواقعـة، والتحقيق هـو مـا عرفت مـن عـدم جريان الأصل ـ لا بالنسبـة إلى المفتي ولا بالنسبـة إلى العامّي ـ في المسألـة الاُصوليّـة.
require("baknext.php");
?>