(الصفحة 85)
وقد يكون تردّد المكلّف بـه مع العلم القطعي لا بالتكليف الفعلي الواقعي، بل بقيام حجّـة معتبرة شرعيّـة عليـه كشمول عموم أو إطلاق أو قيام أمارة كخبر الواحد وشهادة العدلين ونحوهما، فهو على قسمين، فإنّـه قد يعلم بأنّـه مع مصادفـة الحجّـة المعتبرة للواقع يكون الواقع مطلوباً للمولى ومراداً لـه بحيث لم يرفع يده عنـه أصلا، وقد لا يعلم ذلك.
ففـي القسـم الأوّل
لا معنـى للتـرخيـص; لأنّ التـرخيص ولـو فـي بعـض الأطراف لا يجتمع مع إرادة المولى الواقع على تقديـر المطابقـة، وإرادة المولى وإن لم تكن معلومة لعدم العلم بالمطابقـة ضرورةً، إلاّ أنّ احتمال المصادفـة مـع العلم بالترخيص مرجعـه إلى احتمال اجتماع النقيضين وهو ـ كالقطع بـه ـ مستحيل بداهـة.
وأمّا القسم الثاني
الذي مرجعـه إلى العلم بقيام الحجّـة المعتبرة وعدم العلم بكون الواقع مراداً على تقدير المصادفـة، فهو يمكن أن يقع فيـه الترخيص، ولا تلزم المناقضـة أصلا; ضرورة أنّ مع عدم المصادفـة لا يلزم مناقضـة، لعدم ورود الترخيص على مورد الحكم الواقعي، ومع المصادفـة يكون مرجع الترخيص إلى رفع اليد عن الحكم الواقعي لمصلحـة أهمّ من مصلحـة درك الواقع، كما هو الشأن في الشبهات البدويّـة، فإنّ الترخيص في مطلقها مع ثبوت الحكم الواقعي في بعض مواردها إنّما هو لأجل أنّـه رفع اليد عن الحكم الواقعي لمصلحـة أهمّ.
نعم في المقام قبل ورود الترخيص يحكم العقل بلزوم المشي على طبق
(الصفحة 86)
الأمارة ووجوب الاحتياط، ولا فرق في نظره من هذه الحيثيـة بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، فكما أنّ العالم تفصيلا بحجّـة معتبرة شرعيّـة لا يكون معذوراً لو خالفها وصادف الواقع، فكذلك العالم إجمالا بها لا يكون معذوراً لو خالفها ولو بإتيان بعض الأطراف، ويجب عليـه الاحتياط بإتيان الجميع في الشبهات الوجوبيـة وبتركـه في الشبهات التحريميـة.
وممّا ذكرنا ظهر: أنّ الترخيص والإذن في الارتكاب لا يكون ترخيصاً في المعصيـة التي هي قبيحـة عند العقل، فيلزم من ذلك مضافاً إلى الترخيص فيما هو قبيح عند العقل ـ وهو لا يصدر من الحكيم ـ المناقضـة، لعدم إمكان اجتماع المعصيـة مع الترخيص فيها بعد كونها متوقّفـة على تكليف المولى، كما لايخفى، وذلك لأنّ المعصيـة القبيحـة التي يستحقّ بها العبد العقوبـة هي مخالفـة المولى في بعثـه وزجره، وإلاّ فمن الواضح أنّ مخالفـة الأمارة التي هي طريق إلى الواقع لا تكون معصيـة، والترخيص في جميع الأطراف إنّما يرجع إلى الترخيص في مخالفـة الأمارة وعدم المشي على طبقها، وهي لا تكون بنفسها قبيحـة موجبـة لاستحقاق العقوبـة.
وإن شئت قلت: إنّ القبيح والموجب لاستحقاق العقوبـة هي مخالفـة التكليف الواقعي الذي كان مطلوباً للمولى ولم يرفع يده عنـه لمصلحـة اُخرى أهمّ، وأمّا مخالفـة التكليف الواقعي الذي يكون قد رفع اليد عنـه لها فلا تكون قبيحـة ولا موجبـة لاستحقاق العقوبـة أصلا.
فانقـدح مـن جميع مـا ذكرنـا: الخلـل فيمـا أفـاده بعـض الأعـلام مـن أنّ التـرخيص فـي جميـع الأطـراف يوجب الترخيص فـي المعصيـة وهـو مستلـزم
(الصفحة 87)
للتناقض(1). وبالجملـة: فالعقل قبل ورود الترخيص وإن كان يحكم بلزوم العمل على طبق الحجّـة الإجماليـة ووجوب المشي معها بالاحتياط، إلاّ أنّـه لا مانع عنده من ورود الترخيص ولو في جميع الأطراف.
وحينئذ: فلابدّ من ملاحظـة أنّـه هل يكون هنا مانع من جهـة اُخرى، أم لا، وعلى تقدير عدم المانع فهل هنا ما يـدلّ على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي أم لا.
وليعلم
أنّـه على تقدير عـدم المانـع ووجـود الترخيص لا يكون الأدلّـة المـرخّصـة مقيّـدة للإطـلاق أو الـعمـوم الشـامليـن لحـال العلـم الإجمـالـي بصـورة العلم التفصيلي بالموضـوع أو الحكم، فإنّـه ـ مضافـاً إلى الاستحالـة فـي قسم ـ يكـون مقتضى التقيـيد عدم وجـوب التعليم والتعلّم حينئذ، كمـا لا يخفى.
مـع أنّ مـن الواضح وجوبهما على العالـم والجاهل، وكذا لاندّعي كونها مقيّدة لحجّيـة الأمارة بصورة العلم التفصيلي بقيامها، بل نقول بأنّ في جميع ذلك يكون الإطلاق أو العموم أو الأمارة بحالـه، غايـة الأمر أنّ المولى لمراعاة مصلحـة أهمّ اضطرّ إلى رفع اليد عنـه وجعل الترخيص.
- 1 ـ أجود التقريرات 2: 241.
(الصفحة 88)
الكلام في المخالفة القطعية
الروايات الدالّة على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ ما يدلّ بظاهره من الروايات على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي كثير.
منها:
مرسلـة معاويـة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبيجعفر (عليه السلام) فسألـه رجل عن الجبن، فقال أبوجعفر (عليه السلام):
«إنّـه لطعام يعجبني ، سأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شيء فيـه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعـه بعينـه»(1).
وقد وردت هذه الكلّيـة في روايـة عبداللّه بن سنان عن أبيعبداللّه (عليه السلام)قال:
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منـه بعينـه فتدعـه»(2).
والاحتمالات الجاريـة في صدر الروايتين مع قطع النظر عن الغايـة المذكورة فيهما ثلاثـة:
أحدها: أن يكون المراد بالشيء هي الطبيعـة الواحدة التي يوجد فيها
- 1 ـ المحاسن: 496 / 601، وسائل الشيعـة 25: 119، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب61، الحديث7.
- 2 ـ الفقيـه 3: 216 / 1002، وسائل الشيعـة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث1.
(الصفحة 89)
الحلال باعتبار بعض أنواعـه والحرام باعتبار بعضها الآخر، وحينئذ فيصير المراد أنّ هذه الطبيعـة الواحدة لك حلال حتّى تعرف نوعها الحرام بعينـه، وحينئذ فيختصّ بالشبهات البدويّـة، ولا يشمل صورة العلم الإجمالي والشبهات المحصورة.
ثانيها: أن يكون المراد بالشيء مجموع الشيئين أو الأشياء التي يعلم بوجود الحرام بينهما أو بينها إجمالا، وحينئذ فينحصر موردها بأطراف العلم الإجمالي.
ثالثها: أن يكون المراد بـه أعمّ من القسم الأوّل والثاني، فتشمل الروايتان الشبهات البدويّـة والمحصورة جميعاً، هذا.
وأمّا ذيل الروايتين: فإن كان المراد بالشيء هو الاحتمال الأوّل فيمكن أن يكون المراد بالمعرفـة أعمّ من المعرفـة التفصيليـة والإجماليّـة، لكن هذا الاحتمال أبعد الاحتمالات الثلاثـة.
ولو كان المراد بـه هو الاحتمال الثاني فاللازم أن يكون المراد بالمعرفـة، المعرفـة التفصيليـة.
كما أنّـه بناء على الاحتمال الثالث لابدّ أن يكون المراد بها هذه المعرفـة، لاستهجان جعل الغايـة للشبهـة البدويّـة أعمّ من المعرفـة الإجماليّـة، مع أنّ المغيّى شامل لصورة العلم الإجمالي أيضاً التي لابدّ أن يكون المراد من الغايـة بالنسبـة إليها المعرفـة التفصيليـة، كما هو واضح.
وكيف كان: فالروايتان بناءً على الاحتمالين الأخيرين تدلاّن على جعل الحلّيـة في أطراف الشبهـة المحصورة.
ومثـلهمـا فـي الـدلالـة علـى ذلـك روايـة مسعـدة بـن صـدقـة عـن أبيعبداللّه (عليه السلام)قال: سمعتـه يقول:
«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّـه حرام