(الصفحة 90)
بعينـه فتدعـه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريتـه وهو سرقـة، والمملوك عندك ولعلّـه حرّ قد باع نفسـه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم بـه البيّنـة»(1).
فإنّ المراد بالشيء هـو كلّ ما شكّ فـي حلّيتـه وحرمتـه، والغايـة هـو العلم بحرمـة نفس ذلك الشيء المشكوك، فتشمل الشبهـة المحصورة، كما هـو واضح، هذا.
ولكن لا يخفى أنّ روايـة معاويـة بن عمّار مرسلـة لا يجوز الاعتماد عليها. ومثلها في عدم جواز الاعتماد روايـة عبداللّه بن سليمان(2) الواردة في الجبن المشتملـة على هذه القاعدة الكلّيـة، وذلك لأنّ عبداللّه بن سليمان مجهول، مضافاً إلى أنّ موردها الجبن، ومنشأ احتمال التحريم فيـه هو أنّـه قد توضع فيـه الأنفحـة من الميتـة، وصار ذلك موجباً لتقسيم الجبن إلى قسمين حلال وحرام، مع أنّ الجبن بحسب مذهب أهل الحقّ حلال كلّـه حتّى الجبن الذي علم تفصيلا بأنّـه وضعت فيـه الأنفحـة من الميتـة فلا يكون منقسماً على قسمين.
وحينئذ فيقوى في النظر صدور الروايتين تقيـة; للحكم فيهما بجواز أكل الجبن من جهـة الاشتباه لا في نفسـه، مع أنّ الواقع ليس كذلك.
- 1 ـ الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعـة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث4.
- 2 ـ الكافي 6: 339 / 1، وسائل الشيعـة 25: 117، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب61، الحديث1.
(الصفحة 91)
وأمّا روايـة مسعدة فهي أيضاً غير قابلـة للاعتماد، لأنّ الأمثلـة المذكورة فيها لا تكون الحلّيـة فيها مستندة إلى قاعدة الحلّيـة المجعولـة في الصدر، بل الحلّيـة فيها لأجل وجود بعض الأمارات أو الاُصول المتقدّمـة على قاعدة الحلّيـة في موردها مثل اليد وإقرار العقلاء على أنفسهم واستصحاب عدم كونها رضيعـة لـه وكذا استصحاب عدم كونها اُختاً لـه بناءً على جريانـه على خلاف ما هو الحق.
وبالجملـة: فجعل قاعدة كلّيـة ثمّ إيراد أمثلـة لها خارجـة عنها داخلـة في قواعد اُخر مستهجن لا يصدر من مثل الإمام (عليه السلام)، فالروايـة من هذه الجهـة موهونـة جدّاً. فلم يبق في البين إلاّ روايـة عبداللّه بن سنان المتقدّمـة، وهي صحيحـة من حيث السند تامّـة من حيث الدلالـة، خاليـة عن احتمال الصدور تقيـة، لعدم مورد لها.
وقد عرفت: أنّ العقل لا يأبى من الترخيص في جميع أطراف الشبهـة المحصورة، لعدم كون الترخيص فيـه ترخيصاً في المعصيـة بنظره، إلاّ أنّـه حيث يكون المتفاهم من مثل هذه الروايـة عند العرف والعقلاء هو الترخيص في المعصيـة ـ وهو مضافاً إلى قبحـه غير معقول; لاستلزامـه التناقض كما عرفت سابقاً ـ فلابدّ من رفع اليد عنها ولا يجوز الأخذ بمضمونها والحكم بالحلّيـة، ويؤيّده ما حكي عن صاحب الجواهر من ندور العامل بمثل هذه الروايـة والأخذ بمضمونها(1).
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ أصالـة الحلّيـة لا تجري في موارد الشبهـة
- 1 ـ جواهر الكلام 1: 294 ـ 298.
(الصفحة 92)
المحصورة، وكذا أدلّـة أصالـة البراءة; لأنّ مفادها هو جعل التوسعـة للناس وعدم التضيـيق عليهم في موارد الجعل وعدم العلم، والحكم في الشبهـة المحصورة معلوم لا خفاء فيـه. وبعبارة اُخرى: لا يجتمع الترخيص في جميع الأطراف مع العلم بعدم الرخصـة في بعضها إجمالا بعد كون مورد الترخيص هو صورة الجهل وعدم العلم، هذا.
مقالة الشيخ في وجه عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي
وقد اختلفت كلمات الشيخ (قدس سره)
في وجـه عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي، فظاهر كلامـه في مبحث الاشتغال(1) وصريحـه في أواخر الاستصحاب(2) أنّ المانع من جريان الاُصول هو لزوم التناقض من جريانها على فرض الشمول، لأنّ قولـه:
«لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضـه بيقين آخر» ـ مثلا يدلّ على حرمـة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالـة السابقـة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمـة النقض بالشكّ، لأنّـه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثلـه، فالمانع عنده حينئذ هوجهـة الإثبات وعدم شمول الأدلّـة، ولكنّ الذي يظهر من كلامـه في بحث القطع(3).
وفي بعض المواضع الاُخر أنّ المانع هو لزوم المخالفـة العمليّـة، وحينئذ
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 404.
- 2 ـ نفس المصدر 2: 744 ـ 745.
- 3 ـ نفس المصدر 1: 27.
(الصفحة 93)
فالمانع هو عدم إمكان الجعل ثبوتاً.
وكيف كان: فلو كان المانع عنده هـو جهـة الإثبات وقصور الأدلّـة عـن الشمول يرد عليـه: أنّ المراد باليقين المأخوذ في قولـه:
«لا تنقض اليقين بالشكّ...» هـل هـو اليقين الوجداني أو الحجّـة المعتبـرة، يقينيّـاً كانت أو غيره؟
فعلى الأوّل نقول: إنّ الحكم بحرمـة نقض اليقين الواجـداني بالشكّ وإن كان قابلا للجعل، إلاّ أنّ الحكم بوجوب نقض اليقين بيقين آخـر مثلـه لايكون قابلا للجعل بعد كون حجّيـة القطع غير قابلـة للإثبات ولا للنفي كما تقدّم في مبحث القطـع. فقولـه: «ولكـن تنقضـه بيقين آخـر» لا يكون بصدد جعل حكم آخـر حتّى يتحقّق التناقض بينـه وبين الحكم الأوّل على تقدير جريانـه فـي أطراف العلم الإجمالي، بل بصدد التحديـد للحكم المجعول أوّلا، وأنّ حرمـة النقض بالشكّ تكون ثابتـة إلى أن يجيء يقين آخر، فظهر أنّـه بناءً على هـذا الاحتمال لاتكون الروايـة مشتملـة علـى حكمين حتّى يتحقّق مـورد التناقض وعدمـه.
ومن هنا ظهر: أنّـه بناءً على الاحتمال الثاني أيضاً لا تكون الروايـة كذلك; لأنّ الحكم بوجوب نقض الحجّـة المعتبرة غير القطع بحجّـة اُخرى وإن كان قابلا للجعل والتشريع، إلاّ أنّـه باعتبار كون القطع أيضاً من أفراد الحجّـة المعتبرة لايمكن هذا التشريع، وجعل الحكم بالنسبـة إلى بعض أفراد الحجّـة وبيان التحديد بالنسبـة إلى بعضها الآخر ممّا لا يكون لهما جامع حتّى يمكن في استعمال واحد، كما هو واضح.
هذا كلّـه مضافاً إلى أنّـه لو سلّم جميع ذلك نقول: ظاهر سياق الروايـة أنّ
(الصفحة 94)
المراد باليقين في قولـه: «ولكن تنقضـه بيقين آخر» هو اليقين بما تعلّق بـه اليقين والشكّ في قولـه: «ولا تنقض اليقين بالشكّ» لا اليقين بأمر آخر، ضرورة عدم وجوب النقض باليقين المتعلّق بشيء آخر، كما هو واضح.
وحينئذ نقول: إنّ في موارد العلم الإجمالي لا يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس ما تعلّق بـه اليقين السابق، فلا يجب نقضـه بـه.
ألا ترى أنّـه لو علم إجمالا بنجاسـة أحد الإنائين اللذين علم بطهارتهما سابقاً لا يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس مـا تعلّق بـه اليقين السابق، ضرورة أنّ اليقين السابق إنّما تعلّق بطهارة هذا الإناء بالخصوص وبطهارة ذاك الإناء كذلك، ولم يتحقّق بعد يقين بنجاسـة واحد معيّن منهما حتّى يجب نقض اليقين السابق باليقين اللاحق، بل الموجود هو اليقين بنجاسـة أحـدهما المردّد، وهـو لم يكن مسبوقاً باليقين بالطهارة، فمتعلّق اليقين السابق واللاحق مختلف، فلا يجب النقض بـه.
فانقدح: أنّ أدلّـة الاستصحاب تجري في المقام ولا يلزم التناقض أصلا، فلو كان هناك مانع فإنّما هـو مـن جهة الثبوت كما اختـاره في مواضع اُخـر، فتأمّل جيّداً.
تفصيل المحقّق النائيني في جريان الاُصول
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين فصّل على مـا في التقريرات بين أصالـة الإباحـة وغيرها في دوران الأمر بين المحذورين، وكذا بين الاستصحاب وغيره في المقام، فجعل المحذور في جريان أصالـة الإباحـة هناك غير ما هو