(الصفحة 93)
فالمانع هو عدم إمكان الجعل ثبوتاً.
وكيف كان: فلو كان المانع عنده هـو جهـة الإثبات وقصور الأدلّـة عـن الشمول يرد عليـه: أنّ المراد باليقين المأخوذ في قولـه:
«لا تنقض اليقين بالشكّ...» هـل هـو اليقين الوجداني أو الحجّـة المعتبـرة، يقينيّـاً كانت أو غيره؟
فعلى الأوّل نقول: إنّ الحكم بحرمـة نقض اليقين الواجـداني بالشكّ وإن كان قابلا للجعل، إلاّ أنّ الحكم بوجوب نقض اليقين بيقين آخـر مثلـه لايكون قابلا للجعل بعد كون حجّيـة القطع غير قابلـة للإثبات ولا للنفي كما تقدّم في مبحث القطـع. فقولـه: «ولكـن تنقضـه بيقين آخـر» لا يكون بصدد جعل حكم آخـر حتّى يتحقّق التناقض بينـه وبين الحكم الأوّل على تقدير جريانـه فـي أطراف العلم الإجمالي، بل بصدد التحديـد للحكم المجعول أوّلا، وأنّ حرمـة النقض بالشكّ تكون ثابتـة إلى أن يجيء يقين آخر، فظهر أنّـه بناءً على هـذا الاحتمال لاتكون الروايـة مشتملـة علـى حكمين حتّى يتحقّق مـورد التناقض وعدمـه.
ومن هنا ظهر: أنّـه بناءً على الاحتمال الثاني أيضاً لا تكون الروايـة كذلك; لأنّ الحكم بوجوب نقض الحجّـة المعتبرة غير القطع بحجّـة اُخرى وإن كان قابلا للجعل والتشريع، إلاّ أنّـه باعتبار كون القطع أيضاً من أفراد الحجّـة المعتبرة لايمكن هذا التشريع، وجعل الحكم بالنسبـة إلى بعض أفراد الحجّـة وبيان التحديد بالنسبـة إلى بعضها الآخر ممّا لا يكون لهما جامع حتّى يمكن في استعمال واحد، كما هو واضح.
هذا كلّـه مضافاً إلى أنّـه لو سلّم جميع ذلك نقول: ظاهر سياق الروايـة أنّ
(الصفحة 94)
المراد باليقين في قولـه: «ولكن تنقضـه بيقين آخر» هو اليقين بما تعلّق بـه اليقين والشكّ في قولـه: «ولا تنقض اليقين بالشكّ» لا اليقين بأمر آخر، ضرورة عدم وجوب النقض باليقين المتعلّق بشيء آخر، كما هو واضح.
وحينئذ نقول: إنّ في موارد العلم الإجمالي لا يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس ما تعلّق بـه اليقين السابق، فلا يجب نقضـه بـه.
ألا ترى أنّـه لو علم إجمالا بنجاسـة أحد الإنائين اللذين علم بطهارتهما سابقاً لا يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس مـا تعلّق بـه اليقين السابق، ضرورة أنّ اليقين السابق إنّما تعلّق بطهارة هذا الإناء بالخصوص وبطهارة ذاك الإناء كذلك، ولم يتحقّق بعد يقين بنجاسـة واحد معيّن منهما حتّى يجب نقض اليقين السابق باليقين اللاحق، بل الموجود هو اليقين بنجاسـة أحـدهما المردّد، وهـو لم يكن مسبوقاً باليقين بالطهارة، فمتعلّق اليقين السابق واللاحق مختلف، فلا يجب النقض بـه.
فانقدح: أنّ أدلّـة الاستصحاب تجري في المقام ولا يلزم التناقض أصلا، فلو كان هناك مانع فإنّما هـو مـن جهة الثبوت كما اختـاره في مواضع اُخـر، فتأمّل جيّداً.
تفصيل المحقّق النائيني في جريان الاُصول
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين فصّل على مـا في التقريرات بين أصالـة الإباحـة وغيرها في دوران الأمر بين المحذورين، وكذا بين الاستصحاب وغيره في المقام، فجعل المحذور في جريان أصالـة الإباحـة هناك غير ما هو
(الصفحة 95)
المحذور في جريان غيرها من الاُصول(1). وقد عرفت ذلك الجواب عنـه سابقاً.
وأمّا هنا فحكم بعدم جريان مثل الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفـة عمليّـة أم لا، وبعدم جريان غيرها من الاُصول كأصالـة الإباحـة والطهارة وغيرهما إذا لـزم مـن جريانها مخالفـة عمليـة قطعيـة للتكليف المعلوم فـي البين.
قال في وجـه ذلك ما ملخّصـه: إنّ المجعول في الاُصول التنزيليـة إنّما هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّـه هو الواقع، وإلغاء الطرف الآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع، فإنّ ظاهر قولـه (عليه السلام):
«لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) هو البناء العملي على بقاء المتيقّن وتنزيل حال الشكّ منزلـة حال اليقين، وهذا المعنى لا يمكن جعلـه بالنسبـة إلى جميع الأطراف في العلم الإجمالي، للعلم بانتقاض الحالـة السابقـة في بعض الأطراف، فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف، وهذا لا فرق فيـه بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفـة عمليّـة أم لا، لعدم إمكان الجعل ثبوتاً، وأمّا الاُصول الغير التنزيليـة فلا مانع من جريانها إلاّ المخالفـة العمليّـة للتكليف المعلوم في البين، فهي لا تجري إن لزم من جريانها ذلك، وتجري إن لم يلزم(3). انتهى ملخّصاً.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 445 ـ 449.
- 2 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب10، الحديث3.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 14 ـ 17.
(الصفحة 96)
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة بالمعنى الذي أفاده محلّ نظر، بل منع; فإنّ الكبرى المجعولـة في أدلّتـه ليست إلاّ حرمـة نقض اليقين بالشكّ، وظاهرها هو وجوب ترتيب آثار المتيقّن في طرف الشكّ وتطبيق عملـه على عمل المتيقّن.
وأمّا البناء على أنّـه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشكّ كالعدم فلا يستفاد من شيء من الأخبار الواردة في الاستصحاب. كيف واعتبار إلغاء الشكّ وجعلـه كالعدم في عالم التشريع لا يجتمع مع اعتباره في الصغرى بقولـه (عليه السلام):
«لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»(1) فتأمّل.
وبالجملـة: فلا يظهر من أخبار الاستصحاب إلاّ مجرّد ترتيب آثار الواقع في مقام العمل، لا الأخذ بالطرف الموافق للحالـة السابقـة بما أنّـه هو الواقع، كما لايخفى.
وثانياً:
لو سلّم كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة، فلا نسلّم عدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي; فإنّ كلاّ منها مشكوك فيـه مسبوق بالحالـة السابقـة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيـه.
وما أفاده من أنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف محلّ منع; لعدم الدليل على عدم إمكان الاجتماع، فإنّ للشارع في عالم التشريع أن يتعبّدنا بترتيب آثار الوجود على ما ليس بموجود أو بالعكس، كما في المرتدّ الفطري، وبالتفكيك بين المتلازمين.
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
(الصفحة 97)
والعجب أنّـه (قدس سره)
قد تنبّـه لورود هذا الإشكال عليـه، فذكر في آخر بحث الاستصحاب في مسألـة تعارض الاستصحابين مـا ملخّصـه: إنّـه ربّما يناقش فيما ذكرناه ـ من عـدم جـريان الاُصول المحـرزة في أطـراف العلم الإجمالي مطلقاً وإن لم يلزم منها مخالفـة عمليـة ـ بأنّـه يلزم على هذا عـدم جـواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيـين كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائـع مردّد بين البول والماء; لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الإجمالي بعدم بقاء الواقع في أحدهما، لأنّـه إن كان المائع ماءً فقد ارتفع الحـدث، وإن كان بولا فقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بينهما لا يمكـن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليـين أو العاديـين، فإنّ استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيتـه ينافي العلم العادي بعدم الواقع في أحدهما، للملازمـة بين الحياة والنبات، وكذا التعبّد ببقاء الكلّي وعدم حـدوث الفرد ونحـو ذلك من الأمثلـة.
وأجاب عن هذه الشبهـة بما ملخّصـه: إنّـه تارة يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه; لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوتـه، أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيـه، كما في استصحاب نجاسـة الإنائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاستـه، فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاستـه.
واُخرى لا يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه، بل يعلم إجمالا بعدم مطابقـة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيـه، أو نفى ما علم تفصيلا ثبوتـه. بل لا يحصل من التعبّد بمؤدّى الأصلين إلاّ العلم بمخالفـة أحدهما للواقع، كما في الاُصول الجاريـة في