(الصفحة 95)
المحذور في جريان غيرها من الاُصول(1). وقد عرفت ذلك الجواب عنـه سابقاً.
وأمّا هنا فحكم بعدم جريان مثل الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفـة عمليّـة أم لا، وبعدم جريان غيرها من الاُصول كأصالـة الإباحـة والطهارة وغيرهما إذا لـزم مـن جريانها مخالفـة عمليـة قطعيـة للتكليف المعلوم فـي البين.
قال في وجـه ذلك ما ملخّصـه: إنّ المجعول في الاُصول التنزيليـة إنّما هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّـه هو الواقع، وإلغاء الطرف الآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع، فإنّ ظاهر قولـه (عليه السلام):
«لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) هو البناء العملي على بقاء المتيقّن وتنزيل حال الشكّ منزلـة حال اليقين، وهذا المعنى لا يمكن جعلـه بالنسبـة إلى جميع الأطراف في العلم الإجمالي، للعلم بانتقاض الحالـة السابقـة في بعض الأطراف، فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف، وهذا لا فرق فيـه بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفـة عمليّـة أم لا، لعدم إمكان الجعل ثبوتاً، وأمّا الاُصول الغير التنزيليـة فلا مانع من جريانها إلاّ المخالفـة العمليّـة للتكليف المعلوم في البين، فهي لا تجري إن لزم من جريانها ذلك، وتجري إن لم يلزم(3). انتهى ملخّصاً.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 445 ـ 449.
- 2 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب10، الحديث3.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 14 ـ 17.
(الصفحة 96)
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة بالمعنى الذي أفاده محلّ نظر، بل منع; فإنّ الكبرى المجعولـة في أدلّتـه ليست إلاّ حرمـة نقض اليقين بالشكّ، وظاهرها هو وجوب ترتيب آثار المتيقّن في طرف الشكّ وتطبيق عملـه على عمل المتيقّن.
وأمّا البناء على أنّـه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشكّ كالعدم فلا يستفاد من شيء من الأخبار الواردة في الاستصحاب. كيف واعتبار إلغاء الشكّ وجعلـه كالعدم في عالم التشريع لا يجتمع مع اعتباره في الصغرى بقولـه (عليه السلام):
«لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»(1) فتأمّل.
وبالجملـة: فلا يظهر من أخبار الاستصحاب إلاّ مجرّد ترتيب آثار الواقع في مقام العمل، لا الأخذ بالطرف الموافق للحالـة السابقـة بما أنّـه هو الواقع، كما لايخفى.
وثانياً:
لو سلّم كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة، فلا نسلّم عدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي; فإنّ كلاّ منها مشكوك فيـه مسبوق بالحالـة السابقـة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيـه.
وما أفاده من أنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف محلّ منع; لعدم الدليل على عدم إمكان الاجتماع، فإنّ للشارع في عالم التشريع أن يتعبّدنا بترتيب آثار الوجود على ما ليس بموجود أو بالعكس، كما في المرتدّ الفطري، وبالتفكيك بين المتلازمين.
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
(الصفحة 97)
والعجب أنّـه (قدس سره)
قد تنبّـه لورود هذا الإشكال عليـه، فذكر في آخر بحث الاستصحاب في مسألـة تعارض الاستصحابين مـا ملخّصـه: إنّـه ربّما يناقش فيما ذكرناه ـ من عـدم جـريان الاُصول المحـرزة في أطـراف العلم الإجمالي مطلقاً وإن لم يلزم منها مخالفـة عمليـة ـ بأنّـه يلزم على هذا عـدم جـواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيـين كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائـع مردّد بين البول والماء; لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الإجمالي بعدم بقاء الواقع في أحدهما، لأنّـه إن كان المائع ماءً فقد ارتفع الحـدث، وإن كان بولا فقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بينهما لا يمكـن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليـين أو العاديـين، فإنّ استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيتـه ينافي العلم العادي بعدم الواقع في أحدهما، للملازمـة بين الحياة والنبات، وكذا التعبّد ببقاء الكلّي وعدم حـدوث الفرد ونحـو ذلك من الأمثلـة.
وأجاب عن هذه الشبهـة بما ملخّصـه: إنّـه تارة يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه; لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوتـه، أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيـه، كما في استصحاب نجاسـة الإنائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاستـه، فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاستـه.
واُخرى لا يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه، بل يعلم إجمالا بعدم مطابقـة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيـه، أو نفى ما علم تفصيلا ثبوتـه. بل لا يحصل من التعبّد بمؤدّى الأصلين إلاّ العلم بمخالفـة أحدهما للواقع، كما في الاُصول الجاريـة في
(الصفحة 98)
الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيـين أو العقليـين أو العاديـين. والفرق بين القسمين ممّا لا يكاد يخفى، والذي منعنا عن جريانـه في أطراف العلم الإجمالي هو الأوّل. وأمّا الثاني فلا محذور فيـه أصلا; لأنّ التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر(1)، انتهى.
ولا يخفى عدم وضوح الفرق بين القسمين; لأنّ جريان الاستصحاب في القسم الأوّل في كلّ واحد من الإنائين لا ينافي العلم بالطهارة أو النجاسـة، ولا يكون المجموع من حيث هو مجموع مورداً لجريان الاستصحاب حتّى يكون منافياً للعلم التفصيلي بالخلاف، بل مورده هو كلّ واحد منهما بالخصوص، ولاينافي شيء من الأصلين للعلم الإجمالي. غايـة الأمـر أنّـه بعد جريانهما يقطع بكذب أحدهما، للعلم الإجمالي بالطهارة أو النجاسـة، فلم يظهر فرق بينـه وبين القسم الثاني، ومجرّد توافق الأصلين في الأوّل وتخالفهما في الثاني لايوجب الفرق بينهما بعد كون الأوّل أيضاً مصداقين لحرمـة النقض بالشكّ لامصداقاً واحداً.
هذا مضافاً إلى أنّ اللازم من ذلك التفصيل في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، لأنّـه قد تكون الأصلان متخالفين كما فيما لو علم بجنس التكليف، ودار الأمر بين وجوب شيء وحرمـة شيء آخر، مع كونهما مسبوقين بالعدم، فإنّ أصل عدم الوجوب يخالف مع أصالـة عدم الحرمـة ولا يكون بينهما توافق، كما هو واضح، وحينئذ فيصير من قبيل القسم الثاني، مع أنّـه لا يلتزم بالجريان في هذه الصورة أيضاً.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 694 ـ 695.
(الصفحة 99)
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المانع من جريان الاُصول في أطراف الشبهـة المحصورة ليس إلاّ لزوم المخالفـة العمليّـة للتكليف المعلوم في البين، وحيث إنّ الاستلزام واللزوم إنّما هو فيما لو وقع الترخيص في جميع الأطراف، وأمّا الترخيص في بعضها فلا محذور فيـه من هذه الجهـة، فحينئذ يقع الكلام في أنّـه هل هنا شيء يمكن أن يستفاد منـه الترخيص في بعضها أم لا؟
الكلام في الموافقة القطعيّة
فنقول: لابدّ أوّلا من بيان أنّ العلم الإجمالي هل يكون علّـة تامّـة بالنسبـة إلى وجوب الموافقـة القطعيـة أم لا، بل لا يكون فيـه إلاّ مجرّد الاقتضاء، ثمّ على فرض الاقتضاء لابدّ من ملاحظـة الأدلّـة العامّـة المرخّصـة وأنّـه هل يستفاد منها الترخيص بالنسبـة إلى بعض الأطراف أم لا؟ وأمّا على القول بالعليّـة فلامجال لهذا البحث، لأنّـه لو فرض دلالتها على الترخيص فيـه فلابدّ من رفع اليد عنها، للحكم العقلي القطعي بخلافها.
إذا ظهر لك ذلك نقول: قد عرفت أنّ العلم الإجمالي قد يكون متعلّقـه هو التكليف الفعلي الواقعي الذي لا يرضى المولى بمخالفتـه أصلا، وقد يكون هو التكليف الثابت بإطلاق الدليل أو عمومـه أو بقيام أمارة معتبرة وحجّـة شرعيّـة. ففي الأوّل لا مجال للترخيص ولو كان بالنسبـة إلى بعض الأطراف من غير فرق بين الشبهـة المحصورة وغيرها. وفي الثاني لا محذور في الترخيص أصلا ولو بالنسبـة إلى جميع الأطراف ولا تلزم مناقضتـه أصلا.
أمّا على تقدير عدم مصادفـة الأمارة وعدم كون الإطلاق أو العموم مراداً