(الصفحة 117)
نعم ، إنّ هذه المحاجّة القرآنية لأحبار اليهود إنّما تهدف إلى تنبيه المسلمين ، بل كلّ إنسان ، إلى أصل مسلَّم من الأُصول التي تأبى التغيير ، وتنبيه الأُمّة من أجل سلوك السبيل القويم للفوز بالآخرة والابتعاد عن سبل الهلكة .
وخلاصة هذا الأصل: أنّ الإنسان إذا اعتاد الذنوب ولم يلتفت إلى نفسه ، وقضى عمره في الأفعال القبيحة ، فلن يكون مصيره سوى النار والخلود فيها .
2 ـ كان اليهود يسعون لإثبات أصالة دينهم ونفي الشرعية عن دين النصارى من خلال تشبّثها بإبراهيم (عليه السلام) ، وهذا ما كانت تدّعيه النصارى أيضاً
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْء . . .}(1) ، فردّت عليهم الآية القرآنية من سورة آل عمران قائلة:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَيةُ وَالاِْنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(2) . وقد أشارت آية اُخرى صراحة إلى مفهوم هذه الآية فقالت
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(3) . فما الذي يمكن استنباطه من هذه الآية؟
نفهم من هذه الآية أنّ اليهوديّة والنصرانيّة قد تجاوزت أهداف موسى وعيسى ، فأتباع موسى ليسوا بيهود ، كما لا يمكن لأتباع عيسى أن يكونوا نصارى ; لأنّ إبراهيم مسلم ، لا يهودي ولا نصراني .
إذن ، فاليهودية والنصرانية أسماء ابتدعها أهل الكتاب لأنفسهم ، وهي تتنافى والتسليم لله وسلوك الصراط المستقيم ، وما سبيل موسى وعيسى سوى الإخلاص والتسليم والعبودية لله ، فقد قال عيسى (عليه السلام) :
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(4) . ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ الآية تلمّح إلى شرك اليهود والنصارى ،
- (1) سورة البقرة: الآية 113 .
- (2) سورة آل عمران: الآية 65 .
- (3) سورة آل عمران: الآية 67 .
- (4) سورة آل عمران: الآية 51 .
(الصفحة 118)
فقد صرّحت قائلة
{وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ونترك الخوض في التفاصيل إلى موضع آخر .
النتيجة :
الآيتان المذكورتان تعرّضتا للمحاجّة بين أهل الكتاب: اليهود والنصارى ، كما اشترك القرآن في هذه المحاجّة ليقول: لستم ـ اليهود والنصارى ـ تابعين لإبراهيم ، وليس لإبراهيم من ارتباط بكم ، فطريق إبراهيم هو الصراط المُستقيم الذي يقود إلى الحقّ ، وسبيل إبراهيم هو الإخلاص لله ، وسبيل إبراهيم لا عوج فيه ولا انحراف ، وأخيراً سبيل إبراهيم هو التسليم لله والعبودية له .
وعليه : فهاتان الآيتان اللتان تتحدّثان عن محاجّة أهل الكتاب وأوردهما القرآن ، إنّما الغرض منهما هو الالتفات إلى أصل مسلَّم أيضاً من قبل المسلمين ، بل من قِبل كلّ إنسان .
لاشكّ أنّ دعوة إبراهيم (عليه السلام) أصيلة ، والإسلام إنّما واصل دعوته في عبودية الله . إذن محور النجاة والصراط القويم يتمثّل في سلوك النبيّ العظيم إبراهيم (عليه السلام) ، والمسلمون ينبغي أن يلتفتوا إلى ما أورده القرآن بشأن إبراهيم ، ويعلموا بأنّ المسلم هو إبراهيم (عليه السلام) ، فإذا أراد أيّ فرد مسلم أن يكون خليل الرحمن يجب أن يسلم لله ولا يرى سواه ، ولا يسلك سوى صراطه ، ويصرف نفسه عن الدنيا ولا يكترث لزبرجها وزخرفها وأطماعها .
كان هذان نموذجين من مئات النماذج التي ذكرها القرآن الكريم ضمن سرده لقصص الماضين على أنّهما من الحقائق المسلّمة التي لا تختصّ بجماعة معينة ، بل هي اُصول ذات علاقة بمصير البشرية جمعاء ، وذكرها في القرآن دليل على عدم اقتصارها على شخوص القصّة وأبطالها ، بل من أجل لفت انتباه البشرية إليها ،
(الصفحة 119)
وهي من قبيل المباني السامية التي تبلغ بالإنسان السموّ والكمال .
بعبارة أوضح: أنّ القرآن عبارة عن اُصول مسلَّمة ، حيث أفرد هذا الكتاب السماوي قسماً منه لدراسة بعض الأُصول العلمية الواقعية التي ينبغي أن تبتني عليها الحياة الإنسانيّة العقلائية ، غير أنّ هذه الأُصول قد وردت أحياناً ضمن سياق الآيات القرآنية بصورة مباشرة ، وأحياناً اُخرى وردت ضمن سرد قصص الاُمم السالفة .
خلاصة الحديث :
كان السؤال الأوّل هو هل أنّ شرائط الزعامة في بني إسرائيل هي ذاتها في الإسلام ، بحيث يجب أن نلتزم في الزعامة الإسلامية بكلّ شرط كان معتبراً في زعامة بني إسرائيل؟
وقد أجبنا على هذا السؤال ضمن ذكر نقطتين:
1 ـ أنّ اُصول الأديان واحدة من حيث جذورها العقائدية ولا يعتريها التغيير أبداً ، وليس للنسخ من سبيل إليها ، وبدوره أقرّها القرآن ولم يبطلها .
2 ـ وردت أغلب الحقائق القرآنية مباشرة من خلال الآيات القرآنية التي تلفت نظر المسلمين إلى الاهتمام والالتزام بها ، كما وردت بصورة غير مباشرة من خلال سرد قصص الاُمم الماضية .
نتيجة هاتين النقطتين:
تعدّ زعامة الأُمّة في كافّة الأديان من الوظائف التي نصّ عليها الحكيم العليم ، وعليه : فهي من اُصول الأديان وشرائطها مؤثّرة في تحقيق وتثبيت أصل الإمامة ، ومن هنا فإنّ الشروط المذكورة في زعامة بني إسرائيل معتبرة هي الاُخرى في
(الصفحة 120)
الإسلام أيضاً ، إضافة إلى أنّ هذه الشروط من الحقائق المسلّمة التي لن تفقد أصالتها قط طيلة التأريخ البشري ، كما أنّها تأبى الزوال ولا يعتريها التغيير والتبدّل.
ونخلص من هذا إلى أنّ الشروط التي تضمّنتها قصّة طالوت بشأن الإمامة والزعامة ، يعتبرها القرآن من الصفات التي ينبغي أن يتّصف بها الزعيم ، وبخلافه لايعدّ زعيماً إسلامياً .
العنوان الثاني لقصة طالوت:
لقد سبقت قصة طالوت بآيتين ، حيث إنّ مفاد الآيات الثلاث لفت انتباه المسلمين وحثّهم على القتال في سبيل الله والتعرّض للعناصر التي تجسد النصر والغلبة في هذا القتال ، ولمّا كان البحث بالتفصيل لهذه الآيات الثلاث ينطوي على نوع من الإطالة والملل ، فقد آلينا على أنفسنا التعرض بصورة مقتضية لما تضمّنته هذه الآيات من محاور رئيسيّة ، ثمّ نعرج بعدها على ذكر الآيات .
فقد أكّدت هذه الآيات ثلاثة شروط أساسية تقود إلى النصر في خوض غمار الجهاد:
الشرط الأوّل:
هو الإذعان والإيمان بأنّ الموت والحياة بيد القدير سبحانه ، فالموت يدركنا والله يقبض أرواحنا ، سواء كنّا على الفراش أو في ساحات الوغى إن كانت هنالك من مصلحة . وإذا شاء لنا البقاء فليس هنالك من موت ، فقد تكون ساحة الحرب وادعة أمينة بينما يكون الفراش مميتاً; وبناءً على ما تقدّم فإنّ الفرار من الجهاد حرصاً على الحياة يعني إيكال الفرار إلى أمر خارج عن الإرادة والاختيار ، وعلى هذا الضوء فإنّ المؤمن سوف لن يفر ألبتة من ميدان الحرب ويخوض القتال بعزم راسخ وإرادة فولاذية بعد التوكّل على الله والقتال في سبيله .
الشرط الثاني:
أنّ الجهاد قائم على أساس الإنفاق وبذل الأموال والأنفس ،
(الصفحة 121)
ولا تتيسّر مجابهة العدو دون توفير العدة والاستعداد للمنازلة ، ويتمثّل هذا الاستعداد والتجهيز من خلال إعداد الجنود المضحّين والمسلّحين وتفعيل هذا الاستعداد حيال العدو .
الشرط الثالث:
ويعدّ أساس الشروط ، بل لا معنى للشرطين المذكورين دونه ، ويتمثّل بالقائد المقتدر والآمر الكفوء الذي يقود القتال بكلّ بسالة مستنداً إلى العلم والبصيرة والمعرفة التامّة بأساليب القتال ، بغية تحقيق النصر الخاطف على العدو بأقلّ التضحيات .
الآيات الثلاث:
أمّا الآيات الثلاث فقد وردت في سورة البقرة ، وهي:ـ
1ـ
{أَلَمْ تَرَ ِلَى الَّذِينَ خَرَجُوامِن دِيَارِهِمْوَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَالْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}(1) .
فالآية تضمّنت ثلاثة أُمور مهمّة ، وهي:
الأوّل: إنّ الفرار خشية من الموت لا يمنع من حلول الأجل .
الثاني: إنّ الحياة والموت بيد الله لا بيد أيّ أحد سواه .
الثالث: إنّه لاينبغي أن يضعف الإنسان مخافة الموت ; لأنّ الحياة والموت بيد الله ، وليس للفكر من دور إزاء التقدير ، وفضل الله وإحسانه هو الفاعل في حياة الإنسان وموته ، فان كان الموت إحساناً فلا مناص منه والعكس صحيح .
وعليه : ففي الآية الكريمة براعة استهلالية تهدف إلى إعداد المسلمين للجهاد والقتال في سبيل الله ، ومن هنا أردفت هذه الآية بقوله سبحانه:
{وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2) .
- (1) سورة البقرة: الآية 243 .
- (2) سورة البقرة: الآية 244 .