(الصفحة 122)
2ـ
{مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1) .
فالآية تتابع الحثّ على القتال «في سبيل الله» وقد تصدّرت بـ «مَن» الاستفهامية ، وكأنّها تتحرّى الرجل الذي ينهض بهذه المسؤوليّة الخطيرة ليمارسها بنجاح بعد أن يعدّ متطلّباتها . وعليه : فالآية ليست في مقام الحثّ على الإقراض فحسب ، فهي تهدف أمراً آخر إلى جانب ذلك ، وهو أنّ المقرض هو الإنسان والمقترض هو الله سبحانه ، وكأنّ الله مدّ يده إلى الإنسان سائله شيئاً .
ومن هنا فالذي يخلص من ذكر هذا الأمر في آية القتال أنّ الغرض الأصلي من هذا القرض هو أنّ بذل المال والنفس ينشد تحقيق هدف التوحيد ، ولذلك كان المقترض الله ، لأنّ بذل المال والنفس كان في سبيل الله ، ونتيجة ذلك كلمة التوحيد ، فلو جعل الإنسان كلّ ما يملك وقفاً في سبيل الله فإنّ ثواب ذلك سيكون عوضاً مطلقاً لا متناهياً .
وبناءً على ماتقدّم فإنّ الآية الشريفة بسياق الطلب تمثّل أعظم حثّ لإثرة المال والنفس في سبيل الله ، وهو الحثّ والترغيب الذي يغلق على الإنسان كافّة طرق التعذير من قبيل المرض والتمارض والخوف وما شابه ذلك .
والذي يؤيّد هذا الاستنباط بل دليله هو أنّ أغلب الآيات التي تحدّثت عن القرضة الحسنة في السور القرآنية كالمائدة والتغابن والحديد والمزمّل وغيرها من السور إنّما وردت كامتداد لآيات القتال في سبيل الله .
3ـ آيات قصة طالوت التي شرعت بالآية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلاَِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ . . .}(2) ومرّ علينا تفصيلها ، ولاحظنا الشرائط التي تضمّنتها الآيات بشأن زعامة طالوت .
- (1).(2) سورة البقرة: الآيتان 245 ـ 246 .
(الصفحة 123)هذه الآيات الثلاث وهدفها:
قلنا: إنّ هذه الآيات تلفت انتباه المسلمين للقتال «في سبيل الله» ، وقلنا: إنّ هذه الآيات التي تختزن النصر في هذا القتال ، وترشد المسلمين إلى أنّ النصر يتقوّم بثلاثة عناصر:
1ـ ضرورة عدم خشية الموت ووجوب الإيمان بأنّ الحياة والموت بيد الله ، وعليه : فينبغي القتال وعدم الخوف .
2ـ يتطلّب القتال في سبيل الله إعداد القوى والتجهّز والتعاون على مستوى المال والنفس .
3ـ أنّ الشرط الأساسي للنصر هو وجود القائد الكفوء ، الذي يستطيع توظيف القوى الإنسانية وتعبئتها على الوجه الحسن ، وعليه : فقصّة طالوت تكشف النقاب للمسلمين عن حقيقة وواقع ، وترى ضرورة وجود القائد الجدير الذي يحقّق النصر للمسلمين ، الأمر الذي أفادته قصة طالوت في إنشاد الإسلام لهذا الزعيم الرشيد ، القادر ، العالم والماهر ليستبسل المسلمين تحت رايته ويحقّقوا العزّة والافتخار ، ولا تفيد الآية كون الزعيم الإسرائيلي لابدّ أن يكون زعيماً كفوءاً قط ، بل رسمّت هذه القصة صورة هذا القائد الكفوء لتلفت نظر المسلمين إلى الشرائط التي تكهّن بها القرآن في القيادة ، ولا نرى أنفسنا بعد هذا الإيضاح بحاجة للقول: إنّ الدين الإسلامي لاينسخ الأُصول المسلَّمة لسائر الأديان ، وحيث لم يكن ناسخاً فإنّ شرائط القيادة والإمامة وإمرة الجيش في سائر الأديان قد روعيت في الإسلام .
وأمّا الإجابة على السؤال الثاني: أنّ إمرة الجيش سنخ من الشرائط . . .
فلابدّ أن نرى هل المراد بالملك في الآية الشريفة إمارة الجيش فقط ، أم أُريد بها معنى أوسع ولابدّ من التعبير عنه بالزعيم؟ فسّرنا ذلك في المباحث السابقة
(الصفحة 124)
بأمير الجيش أحياناً والزعيم أحياناً اُخرى ، وذلك أنّهم سألوا ملكاً ، وكان هدفهم في ذلك السؤال زعامة الجيش والقتال في سبيل الله ، ومن هنا عبّرنا أحياناً بأمير الجيش ، وبناءً على ما تقدّم فإنّ هذا الملك هو الزعيم .
ولذلك سوف لن يعود هنالك من مجال للسؤال في أنّ آمر الجيش طبق الموازين الطبيعية يجب أن يكون مقتدراً عالماً بفنون الحرب والقتال ، فهل هذه الشرائط معتبرة في الإمام؟ لأنّ الفرض كان يقوم على أساس أنّ الملك هو الزعيم والإمام ، فالآية الكريمة قد بيّنت شرط الزعامة والإمامة بصورة شاملة مطلقة وبمعنى أوسع من إمارة الجيش .
دليلنا:
دليلنا على أنّ المُراد بكلمة «الملك» ذلك المعنى الواسع ـ أي الإمام ـ هو اعتقاد الطبقة الاقطاعية من بني إسرائيل والنُبلاء ، بأنّهم أحقّ بالملك من غيرهم ، وذلك لأنّهم كانوا يرون أنّ الزعامة قضية وراثية ، ولا ينبغي أن ينهض طالوت بهذه الزعامة ; لأنّه ينتمي إلى طبقة فقيرة معدمة في المجتمع لم تكن ذات سابقة في الزعامة . ولذلك أوردنا برهانين أقامهما هؤلاء المعترضون على نبيّهم:
1 ـ الملك حقّ من حقوقنا ومنحصر في سلالتنا .
2 ـ طالوت لا ينتمي إلى طبقة ثرية ليصبح زعيماً .
القرآن بدوره فنّد هذه النظرية ليعلن أنّ الزعامة ليست قضية وراثية ولا ترتبط من قريب أو بعيد بالغنى والثراء ، بل هي منصب إلهي ، ينهض به من تتوفّر فيه شرائطه من قبيل القدرة والعلم والبسطة في الجسم والبصيرة بأوضاع المجتمع .
أضف إلى ما تقدّم أنّ الإسلام لا يرى الزعامة منصباً شكليّاً ، بل هو مقام رسمي مهمّ تكون بموجبه كافّة مقدّرات المسلمين بيد الزعيم ، أي لابدّ أن يكون
(الصفحة 125)
قائداً عالماً متفكّراً ، محيطاً بالحلال والحرام وأحكام القرآن وتعاليم الإسلام ، وسائقاً الأُمّة إلى عبادة الله والتمسّك بكتابه وسنّة رسوله ، كما ينبغي أن يُعالج مشاكل الأُمّة ، وإذا اقتضت المصلحة أن يخوض الحرب ، كان هو القائد العام للقوّات المسلحة ، الذي يمارس حضوره الشخصي في جبهة القتال .
وخلاصة القول: إنّ الإمام في الوقت الذي يعتبر فيه الزعيم الديني والعلمي للاُمّة ، فهو قائد للبلاد وآمر للجيش في الحرب وقاضي في المحكمة .
والآية صريحة في أنّ الملك والزعيم قد يكون أمرآ للجيش وقائداً عاماً للقوات المسلّحة أحياناً . وعليه : فليس هنالك ما يدعو لطرح السؤال الثاني لنجيب عليه .
ولنفترض أنّ الآية اقتصرت على شرائط آمر الجيش وكان هذا هو المراد من الملك ، وقد ذكرنا بأنّ الموازين الطبيعية تقتضي أن يكون الآمر فرداً عالماً بفنون الحرب والقتال ومؤهّلا لقيادة الجيش وقوياً ومقتدراً ، ومع ذلك فينبغي لنا أن نلتزم بهذه الشرائط بالنسبة للإمام أيضاً ; لأنّنا قلنا سابقاً: إنّ ولاة الأمر هم أئمّة لابدّ من اتّباعهم وطاعتهم في جميع الأُمور السياسية والاجتماعيّة والعسكرية .
وبعبارة أُخرى : فالأولى أن نقول بأنّ الإمام لابدّ أن يشتمل على هذه الشرائط ; لأنّه لا يمكن أن يكون مطاعاً مطلقاً ، وليست فيه مثل هذه الشرائط ، بينما إذا اشترك في القتال كان هو القائد العام للقوّات ، وعلى الأُمراء اتّباعه وطاعة أوامره .
أمير المؤمنين (عليه السلام) وآيات قصّة طالوت :
ما أوردناه سابقاً تفصيلا لما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في رواية نقلها صاحب تفسير نور الثقلين عن كتاب «الاحتجاج» للطبرسي . فقد قال (عليه السلام) : «اسمعوا ما أتلو
(الصفحة 126)
عليكم من كتاب الله المُنزل على نبيّه المرسل لتتّعظوا ; فإنّه والله أبلغ عظة لكم ، فانتفعوا بمواعظ الله وازدجروا عن معاصي الله ، فقد وعظكم بغيركم ، فقال لنبيّه (صلى الله عليه وآله) :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلاَِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ . . .} ، أيّها الناس إنّ لكم في هذه الآيات عبرة ; لتعلموا أنّ الله جعل الخلافة والإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم ، وأنّه فضّل طالوت وقدّمه على الجماعة باصطفائه إيّاه وزيادة بسطة في العلم والجسم ، فهل تجدون الله اصطفى بني أُميّة على بني هاشم . وزاد معاوية علَيَّ بسطة في العلم والجسم»(1) .
لقد وردت الآية بشأن قوم من بعد موسى (عليه السلام) قالوا لرسولهم: ابعث لنا ملكاً نُقاتل في سبيل الله ، فأجابهم نبيّهم: هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألاّ تُقاتلوا؟ فقالوا بصوت واحد: وما لنا ألاّ نُقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا! ولكن ما إن كُتب عليهم القتال حتّى تراجعت هذه الجماعة التي أعربت عن استعدادها للقتال ، ولم تصمد منهم إلاّ فئة قليلة
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(2) .
أمّا ما نخلص إليه من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أنّ الخلافة وإدارة شؤون البلاد قد جعلها الله في الأنبياء ومن بعدهم في أعقابهم من الخلفاء الذين يمثّلون الامتداد الطبيعي لخطّ الرسالة ، وأنّ قصّة طالوت عبرة للاُمّة الإسلاميّة في معرفة الإمام ، وأنّها قد وضّحت وظيفة المسلمين تجاه الإمام ، وأنّ الله قد اختار طالوت من بين القوم لعبوديته الخالصة وحيازته لشرائط الإمامة . وأنّها قد أماطت اللثام عن كيفية النهوض بالإمامة وزعامة الأُمّة ، وأ نّ بني هاشم أولى بهذه الزعامة من بني أُميّة ، وأن ليس هناك من بني هاشم من هو أجدر بالإمامة من علي (عليه السلام) ، وليس
- (1) تفسير نور الثقلين: 244 ح 970 عن الاحتجاج 1: 407 ـ 408 .
- (2) سورة البقرة: الآية 246 .