(الصفحة 216)
المؤمنين (عليه السلام) هم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته؟ أَوَ لا ينطبق ذلك الحديث الذي ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل أربع وعشرين سنة بشأن قتل عدّة معدودة من أهل البيت في ذلك الموضع على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته؟ لقد نقل الحسين (عليه السلام) ذلك الحديث إلى صحبه ، وبالطبع فإنّه (عليه السلام) كان يحتمل بأنّه هو المعنيّ بالكلام ، فجعل يستعدّ وصحبه لذلك البلاء .
والذي نخلص إليه من عبارات هذه الصفحة من كتاب المؤلّف الذي أثار مثل هذه الاستفهامات :
1 ـ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حين بلغ كربلاء وحاصره العدوّ ، تذكّر ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ صفوة من أهل البيت تقتل في هذا الموضع .
2 ـ لقد أورد أمير المؤمنين (عليه السلام) عبارته بضمير الغائب «هم» في قوله: «مهراق دمائهم . . .»(1) ورغم كون الحسين (عليه السلام) معه إلاّ أنّه لم يعتقد بأنّه المعنيّ بذلك الحديث .
3 ـ لم يتذكّر الإمام (عليه السلام) حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) طيلة مسيره حتّى حلّ في كربلاء و حاصره العدو .
4 ـ حين تذكّر الإمام (عليه السلام) ذلك الحديث ، خشي أن يكون هو وصحبه المصداق للعبارة: «مهراق دمائهم» ورغم جميع القرائن والشواهد من قبيل حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن تلك الأرض ، وقرينة نزول الإمام فيها ، ومحاولة قتله من قِبَل يزيد ، والمعاملة الفَضّة لعبيدالله بن زياد ومحاصرته للإمام (عليه السلام) ، وما قاله الفرزدق حين التقاه ، ومئات القرائن الاُخرى ، فإنّ الإمام تذكّر توّاً حين نزل في تلك الأرض أن يكون هو وصحبه المقصودين بذلك الحديث الذي أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل أربع وعشرين سنة ، فرجع الإمام إلى نفسه وأحسَّ بالخطر الذي
- (1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ«رجال الكشي»: 19 ح 46، وعنه بحار الأنوار 22: 386 ح 27، الأحاديث الغيبية 2: 164 ـ 165، ويأتي مفصّلاً في ص 259 .
(الصفحة 217)
يواجهه ، في حين لم تكن كلّ تلك القرائن والشواهد سبباً ليقين الإمام (عليه السلام) ، أمّا عبارته: «هاهنا والله محطّ رِحالنا . . .» فقد نسبت إليه من قِبل ابن الأعثم المشهور بالكذب .
أمّا العبارات المنمّقة التي اعتمدها المؤلّف ـ في هاتين الصفحتين من الكتاب ـ فهي لا تفيد كون الإمام لا يعلم بقتله في هذه الحادثة ، ولم يستطع تشخيص الواقعة فحسب ، بل وردها على أساس الاحتمال . وهنا نقول: كيف يقرّ المؤلّف بعلم الإمام بالشهادة منذ انطلاقته ، والحال كانت هذه هي النتيجة لدراسة الصفحتين المذكورتين؟ ولعلّ المؤلّف يقول: إنّي لا أنكر التفات الإمام لهذا الأمر ، بل أقول: إنّه لم يطلق هذه العبارة: «هاهنا والله محطّ رِحالنا . . .» وقد نسبها إليه الكذّاب ابن الأعثم . فأقول:
أوّلا:
ما أوردناه هو نتيجة التحقيقات في ص301 .
وثانياً:
لِمَ التعرّض إلى مقولة ابن الأعثم والإصرار على إثبات عدم صحّتها؟ التعرّض لذلك لا يكون إلاّ لأنّ المؤلّف قد التفت إلى عدم العلم ، وأراد بتضعيف هذه العبارة أن يزعزع أساس علم الإمام ، ويخلص بالتالي إلى أنّ الإمام (عليه السلام) لم يقل: «هاهنا مسفك دمائنا» ، أضف إلى ذلك على فرض أنّ ابن الأعثم كذّاب وضّاع ، فهل لنا أن نرميه بالكذب في الخبر الذي ينقله عن الإمام إذا كان مخالفاً لبعض الواقعيات حسب بعض القرائن؟ وهل هذا هو الاُسلوب الذي ينهجه المؤلّف في استنباطه للأحكام الشرعية؟ مثلا إذا كانت رواية دون سند ، أو كان بعض رواتها من يخدش فيهم ، إلاّ أنّ الرواية موافقة لرواية موثوقة ، فهل تسقط هذه الرواية من الاعتبار؟
هنالك مالا يحصى من القرائن التي تجعل من الطبيعي نسب عبارة «هاهنا والله محطّ رِحالنا» إلى الإمام ، وفرض كذب ابن الأعثم في سائر الموارد لا يعتبر
(الصفحة 218)
دليلا على صحّة هذه المقولة ، وليس هنالك ما يدعو إلى تكذيب ابن الأعثم في إيراده لمقولة تنسجم وسائر الموازين العلمية والقرائن الخارجية ، ولا يسعنا إلاّ أن نردّ إصرار المؤلّف على التكذيب إلى مبدئه الأساسي القائم على إنكار علم الإمام بمقتله في هذه الحادثة .
ومن المناسب هنا أن نشير إلى نقطتين:
النقطة الاُولى:
ترى الشيعة الإماميّة أن لا فرق بين الأئـمّة الطاهرين (عليهم السلام) في جميع الامتيازات والفضائل ، فهم متشابهون في القدرة والعلم وما إلى ذلك من الصفات ، وهنا نطرح هذا السؤال: ما الفرق بين أمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام) ؟ فإذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عالماً بواقعة كربلاء ، فما الذي يدعونا للقول بعدم علم الإمام الحسين (عليه السلام) بها ،بحيث يكون هناك فارق في العلم بين الإمامين؟ ولعلّ هناك من يقول:
أوّلا:
لقد نقل أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه المقولة كرواية أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فما الضير ألاّ يكون الإمام الحسين (عليه السلام) قد سمعها من النبي (صلى الله عليه وآله) ؟
ثانياً:
لقد تطرّق أمير المؤمنين (عليه السلام) إجمالا لهذه الحادثة ، ولعلّه لم يقف على تفاصيلها ولا يعلم أنّها بشأن ولده الحسين (عليه السلام) .
فنقول في الجواب :
أوّلا:
لم يتعرّض لها المؤلّف كرواية أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل اعتمدها المؤلّف كنقل آخر من قبيل كونها نبوءة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقط .
ثانياً:
يفيد ظاهر الكتاب أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مطّلعاً على تفاصيل الواقعة وأنّها بشأن ولده الحسين (عليه السلام) ، وفي هذه الحالة يبقى سؤالنا قائماً: كيف نقول بالفارق بين إمامين مفترضي الطاعة فنثبت لأحدهما من العلم ما ليس للآخر؟!
النقطة الثانية:
من المسلَّم لديك أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أشار إجمالا في معركة صفّين إلى هذه الواقعة ولم يصرّح بشيء بخصوص ولده الحسين (عليه السلام) ، في حين
(الصفحة 219)
أفادت المصادر والروايات أنّه صرّح بإسم ولده الحسين (عليه السلام) وبحضوره ، وقد وردت أغلب هذه الروايات في كتاب البحار للعلاّمة المجلسي (رضي الله عنه) في المجلّد الأربع والأربعين ص252 ـ 266، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة تدحض قضية الإجمال:
فقد قال العلاّمة المجلسي (رضي الله عنه) : «وروي في بعض الكتب المعتبرة عن لوط بن يحيى(1) عن عبدالله بن قيس قال: كنت مع مَن غزا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفّين وقد أخذ أبو أيّوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس ، فشكى المسلمون العطش ، فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين ، فضاق صدره ، فقال له ولده الحسين (عليه السلام) : أمضي إليه يا أبتاه؟ فقال: إمضِ يا ولدي ، فمضى مع فوارس فهزم أبا أيّوب عن الماء ، وبنى خيمته وحطّ فوارسه ، وأتى إلى أبيه وأخبره ، فبكى علي (عليه السلام) ، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا أوّل فتح ببركة الحسين (عليه السلام) ؟ فقال: ذكرت أنّه سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء حتّى ينفر فرسه ويحمحم . . .»(2) .
ولعلّ المؤلّف يقول: ليس هناك من منافاة بين هذه الرواية وما ذكرته ، فقد قلت بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يتطرّق إلى ذكر الحسين (عليه السلام) خلال مروره بأرض كربلاء متوجّهاً إلى صفّين ، ولعلّه صرّح بذلك حين المعركة ، فأقول: لو سلّمنا ذلك ، فالتصريح بالإسم خلال المعركة هل يبقي هنالك من مجال للإجمال ، أو ليس التصريح موضحاً للإجمال؟
نتيجة الأدلّة :
كانت الأدلّة السابقة نماذج تثبت عدم إمكانية تصديق المؤلّف لعلم
- (1) لوط بن يحيى هو أبو مخنف الذي يروي عنه الطبري ، وقد أدرك زمان الإمام الصادق (عليه السلام) .
- (2) بحار الأنوار 44: 266 ح 23 .
(الصفحة 220)
الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحادثة ، الأمر الذي دوّن من أجله الكتاب .
وبالالتفات إلى ما أوردناه سابقاً فلعلّ هنالك من يقول بأحد الموضوعين التاليين:
الموضوع الأوّل :
لقد ألّف كتاب شهيد جاويد بغضّ النظر عن علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة في هذه النهضة ، وهو عبارة عن دراسة دقيقة تثبت نهضة الإمام على أسس عقلائية ومنطقية من خلال المعادلات الطبيعية .
الموضوع الثاني:
قد يُقال : وهل العلم بالشهادة في هذه النهضة من ضروريات المذهب بحيث يدعو إنكاره إلى مثل هذه الضجّة؟ فما الضير ألاّ يكون الإمام عالماً بموضوع قد يكون من المسلّمات؟!
جواب الموضوع الأوّل :
1 ـ إذا كان هناك انسجام بين الدراسة التي تناولها الكتاب وعلم الإمام ، ورأيتم أنّها ليست منسجمة فحسب ، بل بالتوجّه إلى ما ذكر من أنّ علم الإمام يمكن جمعه مع الحركة المنطقية والعقلائية للإمام ، فما الحاجة لصرف النظر هذا؟ في الواقع يعتبر صرف النظر هذا اعترافاً صريحاً يتعذّر معه الجمع بين الكتاب وعلم الإمام ، وأنّ مضمون الكتاب قد دوّن على أساس عدم علم الإمام .
2 ـ يمكن افتراض موضوع «غضّ النظر عن العلم» من وجهة نظر المباحث العلمية والدراسات العقلية السائدة بين العلماء ، أمّا من ناحية الاُمّة فلا يمكن