(الصفحة 229)
أحدهم: أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم ، وملئت غرائره فهم ألْبٌ واحد عليك ، وأمّا سائر الناس فإنّ قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك ، وسألهم عن رسوله قيس بن مِسهر ، فأخبروه بقتله وما كان منه ، فترقرقت عيناه بالدموع ولم يملك دمعته ، ثمّ قرأ:
{فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا }(1) ، اللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك وغائب مذخور ثوابك»(2) .
فالذي نخلص إليه من هذا الحوار واستشهاد الإمام (عليه السلام) بالآية ، هو أنّ الإمام أشار إلى هدفه في إحقاق الحقّ وإجابة دعوة أهل الكوفة ، فقد كان أوّل سؤال سأله أولئك الأفراد هو خبر أهل الكوفة وحالتهم الروحية ، هل هم متأهّبون لدخولنا؟ إلاّ أنّ إجابتهم كانت مثبّطة ، فقد وقفت الآلاف التي بعثت لك برسائلها إلى جانب العدوّ ، فالأشراف قد أعظمت رشوتهم ، أمّا الضُعفاء فهُم متعطّشون لبسط العدل والقسط ، ولكن ليس لديهم القدرة على اتّخاذ القرار في المجتمعات الفاسدة ، فالضعف الماليّ والحرمان وضعف الإرادة تجعلهم خاضعين لإرادة الدولة ، فهم مع الإمام قلباً وضدّه سيفاً ، فإذا قلنا: ما زال الإمام حتّى في ظلّ هذه الظروف يأمل بتحقيق النصر ، لا نرى أيّ منطق وعقل يوافقنا على ذلك ، مع ذلك لم تتزلزل إرادة الإمام (عليه السلام) ولم ينثنِ عن عزمه ومواصلة مسيرته .
ومن هنا يعلم بأنّ هناك هدفاً أسمى يسعى الإمام إلى تحقيقه ، فالإمام (عليه السلام) لم يقترح على الحرّ الرياحي الرجوع والانصراف ، في حين لم يكن الحرّ يعلم بهدف الإمام ، وأولئك القادمون من الكوفة كانوا يظنّون أيضاً بأنّ الحسين (عليه السلام) إنّما يروم السيطرة على الكوفة ، ولذلك أشاروا عليه بالانصراف ، بينما كان الإمام عالماً بما
- (1) سورة الأحزاب: الآية 23 .
- (2) الكامل لابن الأثير 4: 49 ـ 50 .
(الصفحة 230)
أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ولذلك حين يخبر بشهادة قيس يتلو
{فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنْتَظِرُ . . .} .
فمنشأ هذه الأسئلة وتلاوة الآية هو ما ذكرناه من غرض الإمام (عليه السلام) في إسقاط حكومة الجور والظلم وإعلام العالم بأنّنا نريد تطبيق القرآن وأحكام الإسلام ، ولذلك عزمنا على الإطاحة بهذه الزعامة الفاسقة ، فإن قتلنا فذنبنا هو أنّنا نريد إعلاء كلمة الله . وإنّا لعالمون بأنّنا لا نتمكّن من تحقيق أهدافنا سوى بالقتال والشهادة ، فقد سأل أربعة أفراد من أهل الخبرة ـ أجوبتهم تدلّ على أنّهم من أهل الخبرة ـ ليدلوا بشهادتهم على عدم استعداد أهل الكوفة وجيشها لمواكبة مسيرة الإمام فلا من عدد ولا عدّة ، وبالنتيجة لتعلم الدنيا بأنّ الحسين (عليه السلام) لبّى دعوة الاُمّة ، في حين لم تصمد الاُمّة وتمارس وظيفتها وهو فقط الذي واصل مسيرته حتّى الشهادة ، وما زال هدفه لم يتحقّق إلاّ بالشهادة التي أخبرها به جدّه وأبوه .
إذن ، فالدافع من السؤال عن أهل الكوفة إقرار خبراء الاجتماع بالأوضاع الاجتماعيّة التي يعيشها أولئك الناس واستماتتهم في الدفاع عن حكومة يزيد حتّى لا تصدر محكمة التأريخ أحكامها جزافاً ، وتعلم بأنّ هنالك علّة لم تدع الإمام ينصرف عن مواصلة حركته ، العلّة التي لا يعرفها الناس بينما يعلمها الإمام ، والتي يكشف السؤال عن قيس وتلاوة الآية سرَّها في عدم تسليم الإمام والانسحاب من الميدان والقتال حتى الشهادة ، وما إن يتلو الإمام الآية حتّى يبتهل «اللهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة» .
4 ـ جاء في الإرشاد للمفيد: «روى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبدالله إنّ قِبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك ، فقال له الحسين (عليه السلام) : إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء ، أما إنّه تقرّ عيني ألاّ تأكل من برّ
(الصفحة 231)
العراق بعدي إلاّ قليلا»(1) .
فالقصّة مثيرة حقّاً ، كيف أخبر هؤلاء الناس بقضية عمر بن سعد؟ لِمَ طُرح ابن سعد كقاتل للإمام الحسين؟ كان سلوك عمر يوحي بصلاح ظاهره ، فلم يكن آنذاك ما يشير إلى اقترافه هذه الجريمة البشعة ، فكيف اتّفق الناس على أنّه قاتل الحسين؟ فهل ذلك سوى ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبيه سعد بن أبي وقّاص؟ وكانت مقالة على درجة من الجزم بحيث كان الجميع يناديه بقاتل الحسين حين يروه في الأزِقّة والأسواق ، حقّاً ليس هناك شيء آخر ، فسيأتي اليوم الذي يرتكب فيه هذا الفرد ـ الذي لا يفارق زيفاً الجماعة ـ تلك الجريمة ويسوّد وجه التأريخ .
أمّا عمر بن سعد فقد كان مطمئناً لنفسه بحيث يهزأ بكلّ مَن يتفوّه بذلك الكلام ، ولا يراه إلاّ سفيه خفيف العقل ، حتّى ظنّ بأنّ اللغط قد كثر وأنّه لم يطق التحمّل فيحدّث الإمام (عليه السلام) بذلك الحديث: «إنّ قِبلنا ناساً سُفهاء» كيف لي أن أكون قاتلا ؟ ولم أُقارف أيّ جرم لحدّ الآن! فهل هذا إلاّ منطق السفه والسخف؟
أمّا الإمام (عليه السلام) فردّ عليه قائلا: «هؤلاء ليسوا سُفهاء بل حلماء »، يعلمون قاتل إمامهم ، ويرون تلطّخ يدك بدمي .
هذا هو الحوار بين الإمام الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد منذ زمان بعيد عن الطف ّ، فالإمام يصدّق ما قالوه ، ويفهم قاتله بأنّه عالم بما ستؤول إليه الأحداث ، ولو كانت الاُمّة تعلم هذه الاُمور على نحو الإجمال فإنّ الحسين (عليه السلام) محيط بالتفاصيل ، فيخبره بما ينتظره . فالعراق مذبحي وميدان صولتك . وستقدم على قتلي طمعاً بدنيا الريّ إلاّ أنّك لا تبلغ ما ترجو . إنّك لن تعمّر بعدي وستدخل النار بقتلي .
ولك أن ترى ـ عزيزي القارئ ـ ما أورده مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» وله
(الصفحة 232)
نفسه أن يراه ، هذا الحوار بين الحسين وعمر بن سعد ، فقد كان (عليه السلام) عالماً بتفاصيل واقعة كربلاء ، فالاُمّة كانت تعلم بأنّ الحسين (عليه السلام) يقتل في المعركة وقاتله عمر بن سعد ، أمّا الحسين (عليه السلام) فقد كان يعلم دافع عمر بن سعد من قتله ، كما كان يعلم بأنّ ابن سعد سوف لن يظفر ببغيته ، فهل يمكن بعد هذا أن تزعم بأنّ الإمام لم يكن يعلم بتلك الحادثة؟ أو أنّه يعلم بشهادته ولكن ليس في هذه النهضة؟ فكلّ هذه الأسرار عرضها الحسين لعمر بن سعد ثمّ قال بأنّه لم يكن يعلم ، حتّى حين اقترب من كربلاء بحيث لو سُئل: أين نذهب ، وماذا سيحصل ، وأين سننزل وما العاقبة؟ لأجاب : «لاندري على ما تتصرّف بنا وبهم الاُمور؟!» أو نقول: احتمل الأصحاب أخيراً حين وردوا كربلاء أنّ المعنيّ بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ المقتول من أهل البيت بكربلاء هو الحسين (عليه السلام) » .
5 ـ خطبة «خُطّ الموت . . .»
«خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى اشتياق أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيِّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفّينا اُجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّبهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(1) .
أفلا تفيد هذه العبارة «كأنّي بأوصالي . . .» التي أوردها الإمام في
- (1) الملهوف لابن طاووس: 126، مثير الأحزان: 41، كشف الغمّة 2: 29، وعنها بحار الأنوار 44: 366 ـ 367 .
(الصفحة 233)
مكّة ـ حسب ما نقل في اللهوف ـ علم الإمام بمصيره؟ وإضافة إلى ذلك ، ألا تكشف عن مكان مصرعه وشهادته؟ قد يُقال بأنّ الإمام إنّما أورد هذه الخطبة في يوم عاشوراء حين أصبحت شهادته حتمية ، لا أنّه أوردها في مكّة فنقول: لعلّ الإمام (عليه السلام) أورد خطبتين : أحدهما حسب نقل اللهوف في مكة ، والاُخرى حسب مقتل الخوارزمي(1) في كربلاء ، ولعلّ الاختلاف في المضمون يؤيّد ما ذهبنا إليه ، وكما ترد نفس المضامين والألفاظ مع قليل من التغيير في القرآن ونهج البلاغة ; فإنّ هذا الأمر يفيد مقصوداً آخر يختلف عن السابق ، ولعلّ خطبة الإمام (عليه السلام) تكرّرت من أجل إفادة مقصد خاصّ ، كما يمكننا القول بأنّ الخطبة واحدة وقد أوردت في مكّة ، وهنالك عدّة اُمور للترجيح منها:ـ
1 ) تصريح صاحب اللهوف بإيراد الخطبة في مكّة ، بينما لا يصرّح الخوارزمي بإيرادها في عاشوراء ، بل أوردها ضمن أحداث عاشوراء .
2 ) ما المرجّح لنقل الخوارزمي على نقل اللهوف ، بحيث يميل المؤلّف إلى صدورها في عاشوراء؟ بل الترجيح للّهوف حيث نقل المحقّق الجليل والفقيه الكبير والمحدّث الشامخ المرحوم الحاج الميرزا محمّد أرباب الإشراقي في كتابه القيّم «الأربعين الحسينية» أنّ هذه الخطبة قد رُويت عن عدد كثير من عُلماء الإمامية ومنهم السيد بن طاووس في كتاب اللهوف والشيخ جعفر بن محمّد المعروف بابن نما والشيخ علي بن عيسى في كتاب كشف الغمّة ، وقد صرّح الجميع بأنّ الإمام (عليه السلام) ألقى هذه الخطبة حين عزم على الخروج من مكّة إلى العراق .
- (1) «أيُّها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف; وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه كأنّي أنظر إلى أوصالي تقطّعها وحوش الفلوات غبراً وعفراً ، قد ملأت منّي أكراشها ، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته وعترته، ولن تفارقه أعضاءه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بها عينه، وتنجز له فيه عدته . (مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي 2: 8).