(الصفحة 234)
3 ـ يحكم الذوق السليم والمعرفة بالفصاحة العربية بأنّ عبارة اللهوف أفصح وأقدم من عبارة الخوارزمي ، فإسنادها إلى الإمام أنسب ، كما أنّ ابن طاووس صرّح بأنّ الخطبة قد وردت في مكّة ، ولا يسع المؤلّف إلاّ أن يقول بأنّ العبارة التي وردت في اللهوف «فإنّي راحل مصبحاً» دليل على أنّ الخطبة أو البعض منها «مَن كان باذلا مهجته» ـ التي وردت في اللهوف ولم ترد في الخوارزمي ـ لم ترد في مكّة ، وذلك لأنّ حركة الإمام (عليه السلام) كانت عند زوال يوم التروية لا صباحاً ، إضافة إلى أنّ الحركة لم تقرّر قبل ليلة ، بل بحكم الجبر والاضطرار فإنّ الإمام عزم على الحركة فجأة ، ولم تكن هناك من وقفة بين العزم والحركة .
ونقول في الجواب: ليس هناك من منافاة بين الحركة عند الزوال وكلمة «مصبحاً» ; لأنّ هذه الكلمة كثيرة الاستعمال بمعنى «غداً» ومن أين يعلم أنّ الإمام (عليه السلام) لم يعزم على الحركة عندما رأى نفسه مضطرّاً؟ بل كان الإمام مستعدّاً للإتيان بمناسك الحجّ والتوجّه إلى عرفة ، ولم يكن هنالك أيّ قرار مسبق بالحركة إلى العراق قبل زوال يوم التروية ، لقد نقلت أنت هذا الموضوع من إرشاد المفيد والطبري ، والحال أنّه:
أوّلا:
في قبال المفيد (قدس سره) والطبري هناك عدد كبير من العلماء والفضلاء ـ ممّن ذكرناهم سابقاً ـ صرّحوا بأنّ العزم على الحركة كان منذ الليلة التي سبقتها ، وليس هنالك ما يدعونا لاعتماد نقل المفيد وإهمال نقل اللهوف وسائر المشاهير .
ثانياً:
ما يفيده الإرشاد وتأريخ الطبري أنّ حركة الإمام كانت عند زوال يوم التروية بعد الخروج من الإحرام ، وليس هنالك من تعرّض إلى وقت العزم على الحركة وزمان الخروج من مكّة ، بل نقل الطبري عن أبي مخنف أ نّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبدالله بن عباس فقال: ياابن عمّ ، أُشيع بين الناس أنّك ذاهب إلى العراق؟ فأجابه (عليه السلام) : لقد عزمت على المسير منذ اليوم أو يومين إن شاء
(الصفحة 235)
الله . فتكلّم ابن عباس عن هذا الأمر وانصرف ، ثمّ عاد إليه عند الليل أو الغد وأبدى له نصائحه بالانصراف عن هذا السفر(1) . أوَلا تصرّح هذه القصّة ـ التي نقلها الطبري عن أبي مخنف ـ بأنّ العزم على الحركة كان قبل يوم أو يومين؟ فلماذا نقول: كانت الحركة مفاجأة وقد دفعه الاضطرار إلى ذلك ، حيث كان قصده الأساسي الإتيان بمناسك الحجّ ، وعليه : يمكن الجمع بين إيراد الخطبة في الليل مع الحركة صباحاً والعزم عليها ، وهذا ما حصل في الواقع ، وذلك لأنّه عزم على الحركة في الليل وأورد الخطبة .
سؤال:
إذا كان الإمام (عليه السلام) عازماً على الحركة قبل يوم أو يومين وكان يعلم أنّه لا يتوقّف في مكّة حتّى إتمام مناسك الحجّ ، فلِمَ أحرم للحجّ واتّجه إلى عرفة؟
جوابه:
أنّ عمل الإمام (عليه السلام) هذا يستند إلى مصلحة ، ورغم أنّه قرّر الحركة وكان يعلم بعدم أدائه لكافّة أعمال الحجّ ، كان من الضروري أن يحرم للحجّ وينضمّ إلى الجماعة الإسلاميّة في تلك المراسم ، ثمّ يبدّل إحرام الحجّ عمرة ليعلم الناس أن ليس هنالك من حصانة له في ظلّ هذه الحكومة الغاشمة ، وليس له أمن في الحرم الآمن الذي تؤمن فيه الحيوانات ، وهكذا يكشف الإمام (عليه السلام) عن بعض خطط هذه الحكومة ومؤامراتها والتي تهدف إلى إحياء العهد الجاهلي ، ولتعلم الأجيال الإسلامية القادمة بسلب أمن الحرم من قبل هذه الحكومة ، وأنّها لم تمهله حتّى لأداء مناسك الحجّ . أضف إلى ذلك أنّه ليس من المعلوم أنّ الإمام (عليه السلام) أحرم للحجّ ،
- (1) تاريخ الطبري 4: 287 .
(الصفحة 236)
بل يستفاد من رواياتنا وكذلك تأريخ الطبري(1) أنّه أحرم للعمرة ، ولم يكن قد عزم على الحجّ منذ البداية .
أجل ، فإنّ هذا الكلام يفيد عدم الترديد في خطبة «خطّ الموت . . .» حسب نقل اللهوف .
المؤلّف والإقرار بالعلم :
نفترض ـ مماشاة للمؤلّف ـ أنّ هناك تقطيعاً في الخطبة وأنّ الإمام (عليه السلام) لم يورد «من كان باذلا فينا مهجته» في مكّة ، إلاّ أنّه يتّفق معنا في أنّ هذه العبارة «وكأنّي بأوصالي . . .» قد أوردها في مكّة ، وهنا نسأل المؤلّف: أو لا تدلّ هذه العبارة على شهادة الإمام في هذه الحركة؟ أو لا تكشف أيضاً عن موضع الشهادة؟ هل هناك
- (1) 1 ـ جاء في كتاب وسائل الشيعة ج14 ص 310 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلى بلاده ، قال: لا بأس ، وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم ، وإنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً .
- 2 ـ وعنه، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس ، عن معاوية بن عمّار ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ .
- 3 ـ في تاريخ الطبري 4: 289 أنّه وروى أبو مخنف أنّ الحسين (عليه السلام) طاف عند الظهر بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّ من شعره وحلّ من عمرته، ثم توجّه نحو الكوفة .
- نعم ، يشمّ من عبارة المفيد في الإرشاد 2: 67 ، أنّ الحسين (عليه السلام) أحرم للحجّ ثمّ أبدلها للعمرة ، ولكن لا اعتبار لهذه الرواية أمام الروايات المذكورة ، فإحرام الإمام (عليه السلام) كان للعمرة ولم يبدأ بمناسك الحجّ ، وقد حصل مراد الإمام (عليه السلام) ، لأنّ عدم الاشتراك في مراسم الحجّ لمن أقام أشهراً في مكّة ولا تستغرق المناسك سوى بضعة أيّام يفيد إبرازه لموقفه حيال الجهاز الحاكم وفضح سياسة يزيد القائمة على أساس انتهاك الحرمات وسلب الحرم الإلهي أمنه ، فأفهم (عليه السلام) الاُمّة أنّ يزيد وبدلاً من إحياء شعائر الله وتعظيمها يهدف ترويع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مركز التوحيد لا لذنب سوى اتّباعه للحقّ والقرآن .
(الصفحة 237)
من معنى لأن يقول الإمام في عاشوراء: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء؟!» أو ليست العبارة تكهّن ونبوءة عن أمر خفيّ سيحدث قريباً بين النواويس وكربلاء؟
وهنا نسأل: أو لا تدلّ هذه العبارة على علم الإمام (عليه السلام) ؟ لو كانت هذه الحادثة ستقع بعد عشر سنوات فهل يصحّ من الإمام أن يطلق الآن في حركته عبارة «كأنّي بأوصالي . . .»؟ بل هل يعقل إطلاق مثل هذه العبارة في هذا الوقت؟
إذا كان الأمر كذلك فإنّ لسان حال الإمام هو أنّي سأتّجه إلى الكوفة من أجل الإطاحة بحكومة يزيد ، ولا أدري هل سأحقّق هذا الهدف أم لا ؟، إلاّ أنّي أرجو النصر ، أيّها الناس ـ الذين تهبّون لنصرتي ـ اعلموا بأنّي سأُقتل بعد عشر سنوات في كربلاء .
نحن لا يسعنا أن نتأمّل خطبة الإمام (عليه السلام) بهذا الشكل ، فكيف تقيّم أنت الخطبة؟ على كلّ حال ; فإنّ خطبة «خُطّ الموت . . .» قد أوردت في مكّة ، وقد صرّحت بذلك رواية اللهوف الموثوقة ، وأنّ الإمام قد قال في مكّة: «وكأنّي بأوصالي . . .» التي تفيد علم الإمام التامّ بحادثة كربلاء ، والسلام على من اتّبع الهدى .
6 ـ قال المُفيد في الإرشاد : «روى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن يزيد، عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل»(1) .
فالرواية تكشف عن حرارة مستعرة داخل الإمام قد ملأت قلبه الشريف حزناً وألماً حين يصوّر قتل يحيى ، كما ألّمت هذه الكلمات قلب ولده علي بن
- (1) الإرشاد للمفيد 2: 132 .
(الصفحة 238)
الحسين . كان الإمام عالماً بمصيره ناعياً نفسه في هذه الحركة ، ولكن كيف له بالتصريح علناً وعلي بن الحسين وزينب الكبرى يسمعان ما يقول؟ وما عساه أن يفعل والحادثة وشيكة الوقوع .
فالإمام (عليه السلام) يرى ميدان كربلاء وقد أحاط به جيش عبيدالله بن زياد وهم متعطّشون للارتواء من دمه الطاهر ، كما يرى سهام الغدر التي ستصوّب إلى نحر ولده الرضيع وسائر الفتية الذين يضرّجون عمّا قريب بدمائهم ، بل يرى حوافر الخيل التي ترضّ صدره ثمّ يحزّ رأسه ويُهدى من العراق إلى الشام إلى باغ من بُغاة بني اُمية .
ليت شعري ماذا عسى الإمام أن يفعل ، فإن أماط اللثام وصوّر الأحداث تعالت الأصوات بالنحيب والبُكاء الذي يرقّ له قلبه ، وإن فضّل السكوت فلا مناص من حركة تلك القافلة التي ستُواجه تلك الأحداث المروّعة دون أن تكون قد تصوّرتها وتأهّبت لها ، ولم يكن من اُسلوب يمكن اتّباعه بهذا الشأن سوى ذلك الذي اعتمده الإمام ، فلم يكن أن تسير القافلة غافلة عمّا سيواجهها ، لابدّ من لفت انتباه القافلة لتلك الأحداث ليستعدّ البعض للقتال الذي تطيح دونه الرؤوس ، كما تتأهّب النساء للسبي والأسر . فكيف يبدأ وماذا يقول؟ ليس هنالك أفضل من التذكير بحادثة النبيّ يحيى التي من شأنها علاج هذه المشكلة .
نعم ، بإمكان حادثة يحيى (عليه السلام) أن تكون الفصل الأوّل من قصّة حادثة الطفّ ، وهل نذكر تلك الحادثة جملة واحدة ونلفت النظر إلى تكرار حوادث التأريخ؟ كلاّ . فالقول مرّة واحدة قد لا يؤتي أُكله ولابدّ أن أثير تلك الحادثة في عدّة منازل ، ليعلم الركب ويستعدّ لتلقّي الأخبار المؤلمة التي سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد آن أوانها .
وهنا نتساءل لماذا لا يتحدّث هذا الزعيم الذي ينهض بمسؤولية إمرة الجيش