(الصفحة 287)
الحادثة . إذن ، يمكن النظر إلى هذه الحادثة من زاويتين:
1ـ النظر إليها من ذلك الجانب الفاسد الذي يسدّد الضربات الموجعة والمؤلمة ، والتي لا يمكن تفاديها إلاّ من خلال تضحية الإمام!
2ـ النظر إلى المعطيات الدائمة التي أفرزتها النهضة وتمخّضت عنها تلك الحادثة .
فالحادثة على ضوء النظرة الاُولى مصيبة ورزيّة ، بينما على أساس النظرة الثانية نعمة وسلامة ، وعليه : فالأئـمّة (عليهم السلام) إنّما يستندون إلى النظرة الاُولى ـ لا الثانية ـ في وصفهم لتلك الحادثة بالمصيبة .
وعليه : فلا منافاة بين نعتها بالمصيبة من قبل الإمام مع تلك المعطيات التي لم تفرزها سوى طبيعة تلك الحادثة ، وأمّا على ضوء النظرة الثانية فكربلاء لوحة عشق تفيض عذوبة ورقّة ونوراً ، ستسطع أشعّته إلى الأبد ، وقد أشرقت في أُفقها شمس الإمام لتُنير كلّ دياجير الظلام ، الأمر الذي يجعل الأئـمّة (عليهم السلام) ينظرون إليها بعين الفرح والسرور .
ولا بأس هنا بسماع الكلمات الناطقة بإسم أهل البيت ، مخدّرة حيدر وبطلة كربلاء وزعيمة ركب الاُسارى ، وهي تذكّر الاُمّة بصولات علي (عليه السلام) وخطبه في الكوفة ، ولا عجب فقد رضعت هي الاُخرى من ثدي الوحي ، الأمر الذي جعل لها مكانة خاصّة عند الحسين (عليه السلام) ، لقد تمثّل الملعون يزيد بأشعار ابن الزبعرى مسروراً بدرك ثأره من تلك المعارك ولاسيّما موقعة بدر ، على أنّه قتل القوم من ساداته وعدله ببدر فاعتدل ، فلمّا سمعت زينب مقالته ردّت عليه قائلة بعد أن حمدت الله وأثنت عليه:
«أظننتَ يا يزيد حيث أَخَذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا ، نُساق كما تُساق الأُسارى ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأ نّ ذلك لعظم
(الصفحة 288)
خطرك عنده،... فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلاً مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والاُمور لك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلا مهلاً! أنسيتَ قوله تعالى:
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(1) . . . وسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جَهدك ، فوالله لا تمحونّ ذكرنا، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا، ولا ترضى عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فندا ، وأيّامك إلاّ عددا ، وجمعك إلاّ بددا ، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين»(2) .
ونلاحظ كيف نظرت ربيبة علي (عليه السلام) من خلال اعتماد الزاوية الثانية للحادثة ، لتميط اللثام عن وجه يزيد ونيّاته المبيَّنة للإسلام والقرآن ، فهي تبطل تصوّره الفاسد بالقضاء على الإسلام ، وتقول له: هل يمكن إماتة الوحي ، فليس للقرآن من زوال ما دام في أهل البيت عرق ينبض ، إنّ الحسين (عليه السلام) هو الذي قضى عليك وأفشل مخطّطاتك .
وعليه : فمراد الأئـمّة (عليهم السلام) بكون الحادثة مصيبة هو ما مرّ سابقاً ، وإلاّ فحادثة كربلاء كانت بمثابة الدم الذي يجري في العروق بالنسبة للإسلام والقرآن .
الكتاب والخطأ الرئيسي الثالث(3)
الدفاع الشخصي! السلام المشرِّف! الاقتراحات الثلاث! لا يمكن أن تكون ثمرة الدفاع عن النفس هي الشهادة من أجل إحياء الإسلام والقرآن ، وليس
- (1) سورة آل عمران: الآية 178 .
- (2) الملهوف: 215 ـ 218، وعنه بحار الأنوار 45: 133 ـ 135 .
- (3) ألمحنا سابقاً إلى عدم ضرورة إفراد بحث لمناقشة هذا الخطأ ، على أنّ الردّ عليه إنّما يتّضح من الإجابة على الخطئين الماضيين ، ولكن لا بأس بإلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع لأهمّيته .
(الصفحة 289)
هنالك من مصدر صريح صحيح بشأن السلام المشرّف! كما أنّ ذلك الصلح ليس بمشرِّف! ولا يعقل اقتراح مثل هذا السلام من قِبل الإمام!
كتب المؤلّف في ص 204 ـ 205: «حين حُوصر الإمام من قِبل قوّات عبيدالله بن زياد ، بعث بكتاب إلى عمر بن سعد يخبره فيه بالرغبة بالاجتماع به ليلا . . . عقدت الجلسة السّريّة بين الإمام وابن سعد . . . وقد استغرقت الجلسة وقتاً طويلا . . . ولم يعلم من تلك المفاوضات سوى ثلاثة اقتراحات تقدّم بها الإمام ، ومن شأن قبول أيّ واحد منها إقرار الصلح والسلام!
ابن سعد من جانبه أعرب عن ارتياحه لاقتراحات الإمام ، فبعث بكتابه إلى عبيدالله بن زياد . . . وقد كانت اقتراحات الإمام تحمل كلّ معاني الخير والسلام ، بحيث كان لها أثر بالغ على ابن زياد . . .
وكتب في ص206 تحت عنوان «تقرير غلام جاهل»: «روي عن عقبة بن سمعان ـ أحد غلمان قافلة الإمام الحسين (عليه السلام) ـ أنّه قال: لم يقترح الإمام الحسين على ابن سعد سوى الرجوع إلى الحجاز .
ملاحظة:
كانت هذه هي العبارات التي سطّرها مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» بشأن السلام المشرِّف . وهنا نسأل المؤلّف: ما مرادك باقتراحات الإمام الثلاثة والتي أسميتها في الصفحات اللاحقة بالصلح المشرِّف؟ وهل يمكن صدور مثل هذه الاقتراحات من الإمام؟ وهل يُسمّى ذلك الصلح بالمشرّف(1)؟
ما هي الاقتراحات الثلاث؟
ماذا يقصد المؤلّف بالاقتراحات الثلاث؟ لِمَ لَمْ يذكرها؟!
(الصفحة 290)
الاقتراحات الثلاث على ضوء نقل الطبري (ج4 ص313) والكامل لابن الأثير (ج4 ص54) هي عبارة عن:
1 ـ الرجوع إلى مكّة أو المدينة .
2 ـ أن يضع الإمام يده بيد يزيد ليرى فيه ما يشاء .
3 ـ يسيروا به إلى أيّ ثغر .
هذه هي اقتراحات الإمام (عليه السلام) ـ من وجهة نظر أعداء الإمام ـ هل يرى المؤلّف أنّ هذه هي الاقتراحات الثلاث ، أم هناك غيرها؟
طبعاً لا يقصد سواها ، والدليل ما أورده من قرائن في كلامه من قَبيل: أنّ الإمام فاوض عمر بن سعد ، وتقييم ابن سعد للمفاوضات وأنّها إيجابية ، وقد وافقه عليها عبيدالله .
نعم ، هذه هي القرائن ; لأنّ عمر بن سعد المراوغ وعبيد الله بن زياد ـ ابن الزنا ـ يريان أنّ ذلّة الإمام مفيدة ، وأوضح جميع تلك القرائن هي الهوامش التي ذكرها المؤلّف عن كتاب الطبري والكامل لابن الأثير المختصّة بالصلح والاقتراحات الثلاث .
وبناءً على ما تقدّم فهذا هو مراد المؤلّف بالاقتراحات الثلاث ـ التي ذكرت بصورة مبهمة وغامضة في الكتاب ـ ، إلاّ أنّ الأهمّ هو أنّ المؤلّف كان في مقام إثبات صحّة إسناد تلك الاقتراحات إلى الإمام ، فأراد أن يقول بأنّ الإمام (عليه السلام) قد طرح مثل هذه الإقتراحات من أجل الصلح ، ولا يقتصر هذا الكلام على الطبري وابن الأثير ، بل إنّ المؤلّف يقول بأنّ هذا النقل صحيح ، وأنّ الإمام قد أجرى المفاوضات مع عمر بن سعد بتلك المقترحات من أجل إحلال السلام ، وذلك لأنّ المؤلّف شدّد على متابعة عقبة بن سمعان على أنّه غلام جاهل ، لا اطّلاع له ، وهو غلام مُطيع ، وقلّما يقوم الغلمان الذين تقتصر وظائفهم على الطاعة والخدمة بنقل
(الصفحة 291)
وقائع المفاوضات السرّيّة ، وليس لعقبة من ذنب في هذه الحملة الشعواء والاستخفاف سوى أنّه قال: «صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ، ومن مكّة إلى العراق ولم أفارقه حتّى قتل ، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها ، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيدبن معاوية ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس»(1) .
أضف إلى ذلك فإنّ المؤلّف يستدلّ بعبارة للحرّ يوم عاشوراء من أجل البرهنة على استدلاله وعدم اطّلاع عقبة .
إذن ، لابدّ من الجزم بأنّ قصد المؤلّف من الاقتراحات المبهمة هو تلك الاقتراحات ، وقد أيقن بصدورها من الإمام (عليه السلام) ، وأنّ هذا ما قاله الإمام لابن سعد وصدق الطبري وابن الأثير في نقلهما .
جدير بالذكر أنّ المفاوضات مع ابن سعد كانت في اليوم السابع لثلاث قبل عاشوراء حسب قول الطبري وابن الأثير ، بحيث سدّت شريعة الماء على الحسين (عليه السلام) ، ولم يعد هنالك من أمل بالنصر ، ولا يستبعد أن يكون الإمام قد عقد جلسة سرّيّة مع عمر بن سعد ليلة عاشوراء .
ملاحظة :
تضمّنت الصفحات (213 ، 214 ، 215) ثلاثة اُمور مطلوبة من قِبل الإمام:
1ـ الطلب الأوّل للإمام: إنشاء الحكومة الإسلامية و . . .
2ـ الطلب الثاني ـ بعد اليأس من إنشاء الحكومة والشعور بالفشل ـ : الصلح
- (1) تاريخ الطبري 4: 313، الكامل لابن الأثير 4: 54 باختلاف .