(الصفحة 292)
المشرِّف ، وهذا طلب اضطراري قطعاً .
3ـ الطلب الثالث: الدفاع عن النفس بحكم الضرورة والإضطرار .
ماذا يقصد المؤلّف بالصلح المشرّف؟ هل هي الاقتراحات الثلاث من قِبل الإمام الحسين (عليه السلام) على عمر بن سعد؟
نقول بقوّة: ليس سوى ذلك ، لأنّ الطلب الثاني بعد اليأس من النصر ، واليأس من النصر ـ حسب زعم المؤلّف ـ حصل عند مفاوضة عمر بن سعد بشأن الصلح ; لأنّه يقول: «يبدو أنّ هذا الأمر طبيعي جدّاً ، حيث سعى الإمام في مفاوضاته السرّيّة الاُولى أن يقنع عمر بن سعد بالالتحاق بمعسكره والانطلاق معاً إلى الكوفة» .
وعليه : فاليأس المطلق من النصر كان حين حُوصر الإمام (عليه السلام) من قِبل جيش عبيدالله بقيادة عمر بن سعد ولم يعد هنالك من أمل . وهنا تتّضح حقيقة الطلب الثاني للإمام الذي يسمّى بالصلح المشرِّف ، ويمكن تسميته بالطلب الاضطراري ، وهذا الصلح هو في الواقع المقترحات الثلاث التي نقلها ابن الأثير والطبري .
ولمّا كان المؤلّف يعتقد بأنّ هذه المقترحات صدرت من الإمام حين اليأس من النصر ، فلابدّ أن يعتبر الصلح المشرف هو هذه المقترحات الثلاث التي تمثّل الطلب الثاني للإمام!!
أمّا الشهادة فهي الطلب الثالث للإمام (عليه السلام) ، ويوضّح المؤلّف هذه العبارة قائلا: «أي بعد أن رفض أعوان يزيد اقتراح الصلح وأيقن الإمام بأنّه إذا استسلم سيُقتل ذليلا كما فُعل بمسلم بن عقيل ، لم يكن من الإمام لـمّا تعرّض لهجوم الأعداء سوى الدفاع عن نفسه حتّى استشهد» .
«رفض أعوان يزيد الصلح» يعني لو وضع الإمام يده بيد يزيد فإنّ ذلك لا يروق لأعوان يزيد ، ولـمّا رفضوا استسلم الإمام دون قيد أو شرط ـ العياذ بالله ـ ،
(الصفحة 293)
لقد رأى أنّ قتله حتميّ ; لأنّه إن استسلم فهو مقتول أيضاً ، آنذاك دفعه الاضطرار لقتالهم حتّى نال الشهادة .
هذه خلاصة أفكار المؤلّف حول الشهادة ، وأسمينا هذه المعركة دفاعاً عن النفس ،وبناءًعلى زعمه هذا ،لم يكن قتل الإمام في كربلاء أكثر من دفاع عن النفس ، وأيّ دفاع؟ دفاع بعد الاستسلام والذلّة ـ نعوذ بالله ـ التي لم تَرُق لأعوان يزيد .
تكرار :
لقد اتّضحت أفكار المؤلّف بشأن صلح الإمام والاضطرار إلى الدفاع في يوم عاشوراء ، مع ذلك نعرض بصورة سريعة إلى آراء المؤلّف .
كانت نهضة الحسين (عليه السلام) تهدف إلى الإطاحة بحكومة يزيد والأخذ بزمام الاُمور ، وقد فشلت هذه النهضة رغم استنادها إلى بعض العناصر المعتمدة ، وذلك لأنّ الآمال تبدّدت وتحوّلت إلى يأس ، ولاسيّما بعد مفاوضة عمر بن سعد واقتراح الإمام عليه سرّاً الالتحاق بصفّه والانطلاق نحو السيطرة على الكوفة .إذ ذاك تغيّرت خطّة الإمام ، فاقترح الصلح سرّاً على عمر بن سعد .
كانت بنود الصلح تتضمّن ثلاث مقترحات وللحكومة العمل بأيّ منها: أمّا أن يسمح للإمام بالعودة إلى المدينة! أو أن يضع يده الشريفة بيد يزيد! هذه هي المقترحات المشرّفة التي لا تتنافى وشأن الإمام! إلاّ أنّ عمر بن سعد رغم اعتباره مفاوضة الحسين (عليه السلام) مفيدة ورغم موافقة ابن زياد بعد اطّلاعه على الأمر من قِبل ابن سعد ، إلاّ أنّ القوّة الحاكمة رفضت اقتراحات الإمام ، ولم يتمكّن الإمام بحسن نيّته من حسم المشكلة .
لقد فشلت خطّة السلام المقترحة من قِبل الإمام ، وعليه : فلابدّ من اختيار الطريق الثالث . وهل هنالك سوى إظهار العجز والاستسلام؟ هذه هي الفكرة التي
(الصفحة 294)
خطرت على ذهن الإمام ، إلاّ أنّ هذه الفكرة ليست صحيحة ، فأبن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد رأى بعينه بأنّ مسلم بن عقيل قد قُتل رغم استسلامه ، وعليه : فإذا استسلم هو قتل! فهل من سبيل سوى الدفاع عن النفس إلى آخر قطرة دم؟ أم يستسلم للقتل بهذه السهولة دون الدفاع عن نفسه!
إذن لو كان الإمام (عليه السلام) يرى خلاصه في الاستسلام لما قاتل! قاتل حيث لم يكن من سبيل سوى القتال! قاتل دفاعاً عن نفسه! ومرادنا من «الدفاع عن النفس» الذي يقول به مؤلّف «شهيد جاويد» هو هذا المعنى كما تثبته دراساته وتأمّلاته لحادثة كربلاء وقتال الإمام الحسين (عليه السلام) !!
ولا ندري أنردّ على هذه الترّهات أم نترك ذلك للإخوة القرّاء الأعزاء . ونرى أن نردّ عسى المؤلّف المحترم يتدارك ما فرط من أمره ويطهّر كتابه من تلك الشوائب . إلاّ أ نّنا سنردّ بصورة مختصرة .
هل للإمام أكثر من هدف ؟
ليس للإمام (عليه السلام) في نهضته أكثر من هدف ، واحد ، وهو إحياء الحقّ وإزهاق الباطل. بعبارة أُخرى: إحياء سيرة النبي وسنّته وإماتة البدع والشهوات التي تلاعبت بمصير المسلمين بإسم الدين ، وهذا ما جرى كِراراً ومِراراً على لسان الإمام في خطبه التي أوردها خلال حركته ، كانت نهضة الإمام (عليه السلام) تهدف إلى إيقاف الظالمين عند حدودهم وإزالة آثار الفساد والانحراف ، وإشاعة مفاهيم القرآن في الحلالوالحرام ، والوقوف بوجه الحكومات الجائرة من عبدة الأهواء والشهوات ، وإنقاذ المسلمين من براثن حكومة يزيد الفاجر ، هذا هو هدف الإمام .
ولتسليط المزيد من الضوء على هدف الإمام ، نرى من الضروري التعرّف على بعض خطب الإمام (عليه السلام) خلال المسيرة .
(الصفحة 295)
قال الإمام (عليه السلام) مخاطباً أصحابه وعسكر الحرّ في «البيضة»: «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء; وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر . . . .»(1) .
وخطب في «ذي حُسم» فقال: «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنّ الباطل لايُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(2) .
فقد اتّضحت بجلاء خلال هاتين الخطبتين دوافع النهضة ، وهدف الإمام منها ، فليس للإمام (عليه السلام) سوى هدف واحد ، ولم يخطّط سوى من أجل تحقيق هذا الهدف ، وخطّته قتال السلطة اليزيدية الحاكمة حتّى الموت ونيل الشهادة واختيار مجاورة الرحمن .
إذن ، فالهدف واحد ، والخطّة اللازمة لتحقيق هذا الهدف لابدّ أن تكون واحدة أيضاً ، وهي «القتال حتّى الشهادة» فالخطبتان كانتا إجابة لذلك السؤال .
وهنا يبرز هذا السؤال: لم تُسفر هذه الدراسة إلاّ عن نتيجة واحدة ، وهي أنّ هدف الإمام من هذه النهضة هو الوقوف بوجه الفساد والانحراف وإحياء سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ الإمام اعتمد ثلاثة مشاريع من أجل تحقيق هذا الهدف:
1) السيطرة على الحكومة ، 2) الصلح المشرِّف! ، 3) الدفاع !
فلو سيطر الإمام على الحكومة لظفر ببغيته ، وإلاّ فالصلح المشرِّف ، ثمّ إعادة تنظيم القوّة والاستعداد من جديد للقتال ، فإن لم يكن ذلك فالدفاع عن النفس حتّى نيل الشهادة . إذن فقد كان للإمام (عليه السلام) ثلاث خطط من أجل تحقيق هدف واحد ، ألا وهو إحياء السُنّة وإماتة البدعة .
- (1) تاريخ الطبري 4: 304 .
- (2) تاريخ الطبري 4: 305 .
(الصفحة 296)جواب:
هل من عبارة بشأن الصلح في خطب الإمام (عليه السلام) ؟ وهل يفكّر في الصلح ـ ولو بصورة موقّتة ـ من يقول: إنّ حكومة يزيد لزمت طاعة الشيطان وتركت طاعة الرحمن ، وأظهرت الفساد وعطّلت الحدود ، وأحلّت حرام الله وحرّمت حلاله؟ وأيّ صلح هذا؟ الصلح المشين! ولو قال هذا الإمام الهمام: أنا مستعدّ لأن أضع يدي بيد يزيد وأسلّم لكلّ ما يريد! فهل هذا صلح أم ذلّة؟ وهل يفكّر في الصلح كوسيلة لتحقيق الهدف من تصدح حنجرته «هيهات منّا الذلّة»؟
وبناءً على ما تقدّم من مفاد الخطبتين فإنّ الإمام كان قد عقد العزم على القتال حتّى الشهادة التي لا يراها إلاّ سعادة ، وعليه : فلم يعد هنالك من معنى ومفهوم للصلح في قاموس النهضة الحسينية .
الصلح المشرِّف !
إنّ الخطبتين المذكورتين وإن كانتا كافيتين لأن نقول ـ بصفتنا غلمان الحسين وجرياً على ما قاله غلامه عقبة بن سمعان ـ بأنّ نسبة مثل هذا الصلح إلى الإمام كذب محض ، مع ذلك نقف أكثر عند هذا الصلح لنؤدّي وظيفتنا كغلمان للإمام الحسين (عليه السلام) . لا ندري لِمَ اصطلح المؤلّف على الاستسلام دون قيد أو شرط بالصلح المشرِّف ، فهل الاقتراحات الثلاث ـ التي استندتَ فيها إلى الطبري ولم يسمح لك كذبها وزيفها بذكرها تعني استسلام الإمام (عليه السلام) ليزيد ليفعل ما يحلو له؟
فهل للإمام أن يُصالح من ينعته بشارب الخمور والمتجاهر بالفسق وناهب بيت المال وعبد الشيطان والمشرِّع لما يخالف القرآن؟ وهل هذا صلح مشرِّف!
وهل يتقدّم الإمام (عليه السلام) إلى مثل هذا الصلح وهو القائل: أُريد أن آمر بالمعروف