(الصفحة 297)
وأنهى عن المنكروأسير بسيرة جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) (1)؟ وهل يعقل أن يُصالح الإمام (عليه السلام) من يتفوّه .
- لعبت هاشم بالملك
لعبت هاشم بالملك
-
فلا خبر جاء ولا وحي نزل(2)
فلا خبر جاء ولا وحي نزل(2)
وهو يهدّد بالقضاء على الدين والقرآن والمسلمين ومحمّد (صلى الله عليه وآله) ؟
نحن لا نرى معقولية صدور مثل هذا الصلح عن الإمام ، ونسأل من يقول: إنّ الإمام أراد أن يدّخر القوى ليوظّفها في المستقبل بما ينفع الإسلام . أيّ قوى هذه؟ هل المراد بها القوى التي واكبت الإمام في مسيرته إلى كربلاء بما فيها النساء والصبية والكهول كمسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر؟ أم قوّات الكوفة الشعبية! الكوفة التي يشهد المؤلّف بأنّها واقعة في قبضة عبيدالله ، أم القوّات التي ستتشكّل لاحقاً؟
وهل هنالك من أمل في تشكيل قوّات من شأنها القتال في سبيل الله إلى جانب الإمام بعد انسحابه إلى أحد الثغور ـ طبق البند الثالث المقترح ـ وذلك الضغط الشديد والهوّة بين الإمام والاُمّة واليأس والسيطرة التامّة لعبيد الله بن زياد على العراق ، الذي يمثِّل مركز ثقل أنصار أهل البيت (عليهم السلام) ؟ والإمام يستريح قليلا ويلتقط أنفاسه ويضع يده بيد يزيد ويتنزّه في قصوره الفخمة ريثما تنتظم القوّات الشعبية فيشنّ حملته ضدّ حكومة يزيد! هل هذه التصوّرات معقولة؟ وهل يفكّر مصباح الهدى ـ الإمام ـ بهذه الطريقة وليتوصّل بالتالي إلى «الصلح الاضطراري»؟
نعم ، هذا ليس بصلح معقول ولايمكن نسبته إلى ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاصطلاح عليه بالصلح المشرِّف . وبغضّ النظر عمّا مضى فهل من سند لهذا الصلح المقترح؟
- (1) بحار الأنوار 44: 329 ـ 330 .
- (2) تقدّم في ص 207.
(الصفحة 298)
نعم ، سنده الكامل لابن الأثير وتأريخ الطبري ، أمّا عبارة الكامل فهي: «ثمّ بعث الحسين إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه عمر فاجتمعا وتحادثا طويلاً وقد استغرقت المفاوضات السرّيّة للطرفين وقتاً طويلا ، وكثر حديث الناس ، فكان الظنّ الغالب هو أنّ الإمام طلب من عمر بن سعد نصرته . . . نعم ، لقد ظنّت الأكثرية ذلك ، وهنا قال فرد مجهول: لا ، فقد اقترح الإمام على عمر ثلاث مقترحات على أن يقبل أحدها» فهل لنقل ابن الأثير هذا سند؟ وهل يعتمد نفس ابن الأثير على نقل فرد مجهول غير معروف ظنّ أنّ اقتراح الإمام (عليه السلام) على عمر كان ذلك الصلح المشرّف ، ولمزيد من الاطمئنان نورد عبارة الكامل حيث قال:
«وقيل: بل قال له: اختاروا منّي واحدة من ثلاث: إمّا أن أرجع . . . وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد . . . وإمّا أن تسيروا بي إلى أيّ ثغر . . .»(1) .
ويلتفت أهل العلم إلى أنّ نقل حديث الشخصيات العلمية أو التأريخية أو السياسية لا يقال فيه أبداً «قيل» بل يقال: «قال» ، وإذا ذكر في موضع كلمة «قيل» فإنّ ذلك دليل على عدم الاعتناء بحديثه وأنّه مجهول بحيث لا يذكر اسمه ، ولـمّا عبّر ابن الأثير بـ «قيل» فإنّ الشخص الذي ظنّ أنّ حديث الإمام (عليه السلام) مع عمر بن سعد كان يتمثّل بالاقتراحات الثلاث ممّن لا يمكن الاعتماد على ظنّه والاعتناء بحديثه ، ولا يمكن أن يحظى باهتمام حتّى مؤلّف كتاب الكامل فضلا عن الباحثين والمحقّقين .
وبغضّ النظر عن هذا ، ألم يكذّب عقبة بن سمعان ـ الغلام الخاصّ للإمام (عليه السلام) ـ هذا الاقتراح ، وقد نقل عنه الطبري والكامل أنّه قال: فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أ نّه يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين...(2) .
- (1) الكامل لابن الأثير 4: 54 .
- (2) الكامل لابن الأثير 4: 54، تاريخ الطبري 4: 313 .
(الصفحة 299)
ولا يمكن القول أنّ عقبة ـ الذي كان غلاماً للإمام (عليه السلام) ـ لم يكن مطّلعاً على الأوضاع ; لأنّ هذا الغلام حامل الأسرار ، ويفهم من كلامه أنّه كان معتمداً من قِبل الإمام ، وأنّه لم يفارق مولاه خلال مسيره من المدينة حتّى يوم شهادته .
وإذا قيل: لقد أشار الحرّ بن يزيد الرياحي ضمن اعتراضه على ابن سعد إلى هذا الاقتراح ، ويتبيّن أنّ الحرّ كان مطّلعاً أيضاً ، واطّلاعه مقدّم على الاطّلاع الهشّ للغلام عقبة بن سمعان . فنقول:
أوّلا : أنّ الحرّ لا يقول بأنّ الإمام طرح مثل هذا الاقتراح على عمر بن سعد وأعوان يزيد ، بل خاطب الناس قائلا: «ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخِصال التي عرضها عليكم . . .» (1).
وثانياً : لم يرد ذكر للمقترحات .
ثالثاً : لا يعلم هل كانت ثلاث مقترحات أم أكثر .
ورابعاً : أشار الحرّ في حديثه إلى خطبة الإمام (عليه السلام) بالناس ، فسمعه الحرّ يقول: «لا والله لا أعطيهم بيدي اِعطاء الذليل . . .» (2).
وعليه : فلا يمكن القول بأنّ الخِصال التي ذكرها الحرّ هي تلك الاقتراحات على عمر بن سعد ، وأنّه كان مطّلعاً على الصلح المشرِّف ، ولا يمكننا رفض قول عقبة بن سمعان بتكذيب هذا الصلح المشرّف ، بحجّة كونه غلاماً ، فهل كونه غلاماً ذنب يدعو إلى عدم الوثوق بإخباره ونقله ؟
وخامساً : يقوى الظن بأنّ الخصال التي أوردها الحرّ في حديثه هي تلك الاستفهامات التي طرحها الإمام من قَبيل: ألم تكتبوا إليّ رسائلكم؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم؟ ألستُ سيد شباب أهل الجنّة؟ ألم يقل جدّي: «الحسن والحسين سيّدا
- (1) الكامل لابن الأثير 4: 64 .
- (2) تاريخ الطبري 4: 323، بحار الأنوار 45: 7 .
(الصفحة 300)
شباب أهل الجنّة»؟ أتطلبوني بمال أخذته؟ أم دم سفكته؟(1)
هذه الخِصال التي لو صدّقوا واحدةً منها وكانت لهم ذرّة من ضمير ، لما صوّب أهل الكوفة سهامهم وحِرابهم إلى الإمام ، ولما تمكّن بعد ذلك عبيدالله وعمر بن سعد من مواجهة أبي الفضل العباس وليوث كربلاء .
ولذلك نرى الحرّ يلتفت إلى نفس هذا الأمر فيقول في آخر حديثه: «ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟... إذ دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنّكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه»(2) .
وعليه : فهو يلقي بالتبعة على جيش الكوفة الذي أراده الإمام عوناً فتحوّل إلى فرعون لموسى كربلاء: الحسين (عليه السلام) .
سؤال :
لعلّ هناك من يقول بأنّه ليس من الصواب الإستناد إلى ابن الأثير في تلك المقترحات ، وحتى ابن الأثير لا يعتقد بأنّ الإمام طرح تلك الاقتراحات ، غير أ نّ سندنا تأريخ الطبري ، فقد نقل الطبري عن أبي مخنف ، عن عدد من المحدّثين أنّ الإمام طرح المقترح الفلاني على عمر بن سعد .
جواب:
أوّلا : كانت مفاوضات الإمام (عليه السلام) ـ حتّى بقول الطبري(3) ـ مع عمر بن سعد سرّيّة ، ولا يمكن التنبّؤ بكنهها إلاّ من خلال الحدس والظنّ ، ولو استند الدليل إلى
- (1) اُنظر مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف (وقعة الطف): 206 ـ 207 .
- (2) مقتل الحسين لأبي مخنف (وقعة الطف): 215 .
- (3) تاريخ الطبري 4: 312 ـ 313 .
(الصفحة 301)
الحدس فقد اعتباره ، علاوة على ذلك فقد قال الطبري: ظن أغلب الناس أنّ الإمام لم يطرح أكثر من اقتراح على عمر بن سعد .
وثانياً : رغم أنّ الطبري ينقل عن أبي مخنف ، وهذا عن عدد من المحدّثين في أنّ مقترحات الإمام (عليه السلام) ثلاث ، إلاّ أنّ نفس أبي مخنف ـ على قول الطبري ـ روى عن عقبة بن سمعان: «ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ، وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس»(1) ، أمّا ما شاع بين الناس من الاقتراحات الثلاث فهي ظنون لا أساس لها .
وثالثاً : الطبري هو الآخر نقل حدسيات الناس وكذلك قول المحدّثين وكلام عقبة بن سمعان ، أفلا يدلّ هذا النقل على عدم اعتناء الطبري بقول المحدّثين؟ بل دليل على عدم إصداره حكماً يعتقد به . وإذا غضضنا الطرف عن هذا ، فماالذي يفيده نقل الطبري؟ هل يفيد أكثر من كون المفاوضات كانت سرّيّة وأنّ الناس أبدت ظنونها وحدسها بهذا المجال؟
فقد قال البعض: إنّ الإمام لم يتقدّم بأكثر من اقتراح واحد ، وقال البعض الآخر: بل كانت ثلاث اقتراحات ، ولعلّ هذا رأي الأكثرية ، كما أشار إلى ذلك عقبة بن سمعان ، فقد صرّح بأنّها لم تكن سوى شائعات جوفاء لا أساس لها ، ولم يقل الإمام (عليه السلام) سوى: «دعوني فلأذهب . . .» .
وعلى هذا الضوء ألا يمكن الظنّ بأنّه ليس هنالك من سند لقول المحدّثين عن العامّة التي نقل عنها أبو مخنف سوى ظنّ الناس وحدسهم البعيد عن مفاوضات الإمام (عليه السلام) وعمر بن سعد؟ وعليه : فهل يمكن الاستدلال بقول المحدّثين ؟ وهل لهذا القول من اعتبار حتّى من وجهة نظر أبي مخنف؟
- (1) تاريخ الطبري 4: 313 .