(الصفحة 301)
الحدس فقد اعتباره ، علاوة على ذلك فقد قال الطبري: ظن أغلب الناس أنّ الإمام لم يطرح أكثر من اقتراح على عمر بن سعد .
وثانياً : رغم أنّ الطبري ينقل عن أبي مخنف ، وهذا عن عدد من المحدّثين في أنّ مقترحات الإمام (عليه السلام) ثلاث ، إلاّ أنّ نفس أبي مخنف ـ على قول الطبري ـ روى عن عقبة بن سمعان: «ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ، وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس»(1) ، أمّا ما شاع بين الناس من الاقتراحات الثلاث فهي ظنون لا أساس لها .
وثالثاً : الطبري هو الآخر نقل حدسيات الناس وكذلك قول المحدّثين وكلام عقبة بن سمعان ، أفلا يدلّ هذا النقل على عدم اعتناء الطبري بقول المحدّثين؟ بل دليل على عدم إصداره حكماً يعتقد به . وإذا غضضنا الطرف عن هذا ، فماالذي يفيده نقل الطبري؟ هل يفيد أكثر من كون المفاوضات كانت سرّيّة وأنّ الناس أبدت ظنونها وحدسها بهذا المجال؟
فقد قال البعض: إنّ الإمام لم يتقدّم بأكثر من اقتراح واحد ، وقال البعض الآخر: بل كانت ثلاث اقتراحات ، ولعلّ هذا رأي الأكثرية ، كما أشار إلى ذلك عقبة بن سمعان ، فقد صرّح بأنّها لم تكن سوى شائعات جوفاء لا أساس لها ، ولم يقل الإمام (عليه السلام) سوى: «دعوني فلأذهب . . .» .
وعلى هذا الضوء ألا يمكن الظنّ بأنّه ليس هنالك من سند لقول المحدّثين عن العامّة التي نقل عنها أبو مخنف سوى ظنّ الناس وحدسهم البعيد عن مفاوضات الإمام (عليه السلام) وعمر بن سعد؟ وعليه : فهل يمكن الاستدلال بقول المحدّثين ؟ وهل لهذا القول من اعتبار حتّى من وجهة نظر أبي مخنف؟
- (1) تاريخ الطبري 4: 313 .
(الصفحة 302)
إذن ، فتأريخ الطبري ليس من شأنه أن يفيدكم ولا يمكنكم جعله دليلا للاستنباط ، وبغضّ النظر عن هذا ، ولنفرض أنّ الطبري يعتقد بأنّ الإمام قد اقترح البنود الثلاث ، فهل يمكن الاستناد إلى قول الطبري في أن نقول: «يوجد هنا بعض المطالب المسلّمة . . .الرابع: أنّ الإمام تقدّم بثلاثة اقتراحات لو طبّق أيّ واحد منها لتمّ عقد الصلح دون ترديد؟ . . .» .
أوليس قول الطبري يتعارض وقول ابن الأثير؟ الذي قال: وقيل: بل قال له: اختاروا منّي . . . أي أنّ المحدّثين لم يقولوا ، ولم يكن ذلك شائعاً بين الناس في أنّ الإمام قاله ، بل هذا قول مجهول . إذن لا يمكن الاستدلال بقول الطبري طالما كان متعارضاً مع كلام ابن الأثير .
الأهمّ من كلّ هذه الأقوال :
الأهمّ من كلّ ما ذكر روحية الإمام (عليه السلام) وهدفه المقدّس وعزمه الفولاذي ورسالته التأريخية وعلمه الثاقب بمصير الاُمور وشوقه للقاء الله و وظيفته الربّانية ، كزعيم للاُمّة وخطبه الملحمية: «لا والله لا أعطيهم بيدي اِعطاء الذليل . . .»(1) .
«هيهات منّا الذلّة»(2) .
«إنّ الله لا يغلب على أمره . . .»(3) .
«وكأنّي وأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا»(4) .
«من لحقَ بي استشهد»(5) .
- (1) مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف (وقعة الطف): 209 .
- (2) تحف العقول: 241، الاحتجاج 2: 99، مثير الأحزان: 55 .
- (3) الإرشاد للمفيد: 2 / 76، وعنه بحار الأنوار 44: 375 .
- (4) مثير الأحزان: 41 .
- (5) كامل الزيارات: 157 ح 195 .
(الصفحة 303)
«هاهنا والله محطّ ركابنا وسفك دمائنا . . .»(1) .
كلّ هذه الشواهد ومئات القرائن الاُخرى تدعو إلى الجزم بأنّ الإمام (عليه السلام) لم يتقدّم قطّ بتلك المقترحات الثلاث إلى حكومة يزيد الخزي والعار ، ولا سيّما أنّ الإمام (عليه السلام) أعرف من الجميع بمدى إصرار يزيد على حزّ رأسه وابن مرجانة الذي غالباً ما كان يناديه الإمام بابن الزانية! ورغم كلّ ذلك ، فإذا كان هناك من يشعر بالترديد فإنّا نقول له ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ : لو كان هناك من اقتراح فإنّما طرح على الناس بهدف إتمام الحجّة وكشف النقاب عن روحية أهل الكوفة المتعطّشة لإراقة الدماء وإفهام الدنيا بأنّ الإمام لا يحمل سوى رسالة الصلح والسلام التي اندفع إليها بكلّ ما أُوتي من قوّة ، إلى الحدّ الذي جعله يقدّم مثل هذه التنازلات حرصاً على سلامة الاُمّة وعدم سفك دمائها ، في حين لم تجبه حكومة الجبابرة وكانت مصرّة على قتله ، وإلاّ فكيان الإمام (عليه السلام) كان مفعماً بصرخات «هيهات منّا الذلّة» .
سؤال :
ربما كان هناك من يقول: المراد بالصلح المشرِّف هو ذلك الاقتراح ذكره عقبة بن سمعان ، في أنّ الإمام قال لهم: «دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة» . وقد أورد الإمام مثل هذا الاقتراح يوم عاشوراء ، وإذا تجاهل المؤلّف قول عقبة ، فليس له أن ينكر مثل هذا المضمون الذي صرّح به الإمام (عليه السلام) يوم عاشوراء .
إذن ، فالصلح المشرِّف هو هذا الاقتراح . ولابدّ من القول بأنّه مشرّف لكون الإمام لا يرضى بالقِتال وإراقة الدماء .
(الصفحة 304)جواب :
كان الاقتراح على الناس لا أعوان الحكومة ، بينما حديث المؤلّف عن الصلح كان على أساس مفاوضة أعوان الحكومة ، فقد كتب المؤلّف في ص215: «وبعد أن رفض أعوان الحكومة عقد الصلح . . .» أوليس الصلح الذي رفضه أعوان الحكومة هو تلك المقترحات الثلاث؟ إذن ، فهذا الصلح لم يكن ذلك المقترح الذي نقله عقبة بن سمعان .
نعم ، لو تحدّث الإمام (عليه السلام) إلى الناس ، كان لابدّ من القول حقّاً أنّ هذا حديث الإمام واقتراحه على الناس ، وهو جدير بأن يُسمّى بالصلح المشرّف ، وذلك لأنّه مشروع يحول دون إراقة الدماء ويكشف عن حرص الإمام (عليه السلام) على سلامة الاُمّة ، رغم علمناأنّ تلك الاُمّة ليس لهاولالدمائهامن قيمةواعتبار من وجهة نظر الإسلام ، غير أ نّ رأفة الإمام (عليه السلام) ورحمته وحلمه لم تدعه يسمح بإراقة دماء حتّى تلك العصبة المراوغة الكاذبة الغادرة ، والحقّ أنّ هذا الصلح لما كان يهدف إلى سلامة الاُمّة فهو صلح مشرّف لا ذلّة فيه ، كما يمكن القول في نفس الوقت أنّه اقتراح لترك المخاصمة وكاشف عن عظمة الإمام ، ولكن وعلى أساس ما ذكر سابقاً ، لا يمكنه أن يكون كاشفاً عن الإرادة الجديّة للإمام بمصالحة الاُمّة ، وذلك لأنّ الإمام يعلم أنّ هذه الاُمّة مغلوبة على أمرها وليس لها من إرادة ، فهي حفنة جنود تزجّ بنفسها جهلا بالمعركة أملا في الحصول على حطام الدنيا وما يمنّيهم به أسيادهم ، وليس للجندي من حقّ في اتّخاذ القرار أو المشاركة في مفاوضات الصلح وما شاكل ذلك ـ طبعاً هذا في الأنظمة غير الإسلامية ، وإلاّ فهو صاحب قرار في الإسلام على ضوء المقرّرات والضوابط الإسلامية ـ كما كان الإمام عالماً بشهادته ، وهذا العلم يمنعنا من القول بأنّ إرادة الإمام (عليه السلام) الحقيقية كانت الدعوة إلى المصالحة .
وبناءً على هذا فإنّ طرح الاقتراح بهذه الجديّة لم يكن وارداً ، فلايمكن
(الصفحة 305)
للإمام (عليه السلام) أن يُطالب جدّياً بإخلاء سبيله ، ولعلّ مراده هدف أسمى من ذلك ، كأن يُفهم العالم أنّنا لسنا طلاّب حرب ، وأنّنا حريصون على الصلح والسلام إلى أبعد الحدود وهذا ما أبلغنا به الاُمّة ، إلاّ أنّ دعوتنا لم تلق آذاناً صاغية ، وحتّى لا ينبري أحد ليقول: لِمَ ألقى الإمام بنفسه في التهلكة؟ ليس للإمام من عداء لأحد من أبناء الاُمّة وقد حلّ عليها ضيفاً بعد أن دعته ، رغم علمه بعاقبة هذه الضيافة التي ستكون مائدتها رؤوس يطاح بها ودم عزيز يُسفك ، فهذا ما أوصاه به جدّه وأبوه من إجابة دعوة الناس .
إذن ، فالهدف الرئيسي للإمام (عليه السلام) هو إعلان الصلح والسلام وإماطة اللثام عن نيّات السوء التي يبيّتها يزيد ومردة الكوفة ، وإلاّ فالحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّ جيش عبيدالله بن زياد كان مسلوب الإرادة ، وحتّى لو افترض لهم ثـمّة إرادة ، مع ذلك كانوا من المردة والغدرة الفجرة الذين هبّوا لضيافة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتلك الطريقة اللئيمة ، كان الإمام (عليه السلام) عالماً بأنّ تربة كربلاء ستشهد ذلك النزيف الدموي الطاهر ، وعليه : فاقتراح الإمام لم يكن سوى تعبيراً عن حبّه وحرصه على الإنسانيّة ، وبيان ذلّة ودناءة جيش ابن زياد ، وإتمام الحجّة على مَن شهد فصول ذلك المشهد الدامي في صحراء كربلاء .
ثورة الإمام (عليه السلام) ليست دفاعاً عن النفس
قيل: إنّ الهدف الذي يحظى باهتمام الإمام بالدرجة الثانية هو الصلح ، وحيث فشل الصلح فيأتي دور الاستسلام ووضع اليد بيد يزيد و . . . ورفض من قبل أعوان يزيد ، فقد انبثق الهدف الثالث: «الدفاع» وقال المؤلّف في وصفه للدفاع: «أيقن الإمام بأنّه إذا استسلم فسيُقتل بنفس الطريقة الذليلة التي قُتل بها مسلم بن عقيل ، وعليه : فليس له من سبيل أمام هجوم الأعداء سوى الدفاع . . .» .