(الصفحة 306)
إنّا وإن أوردنا هذه العبارة سابقاً إلاّ أنّنا نروم من تكرارها ، لتسهيل الوقوف على بعض الاُمور ، فالعبارة تُفيد أنّ عملية الدفاع قد ظهرت بعد فشل مشروع الاستسلام وهجوم العدو . وعليه : فالدفاع جاء بعد سلسلة من الفشل والهزيمة ، الفشل في تزعّم الاُمور والسيطرة على الكوفة والفشل في تحقيق الصلح المشرّف ، والفشل في التسليم إلى العدوّ ، وبالتالي عزم العدو على قتل الإمام (عليه السلام) !! فهل مثل هذا الدفاع مشرّف؟ وهل هذا الدفاع المشرّف شهادة؟ أم دفاع عن النفس؟
بعبارة اُخرى: هل أنّ شهادة الإمام كانت بهدف إحياء الإسلام وإماتة البدع وتحرير الاُمّة من براثن الطغاة؟ أم أفرزته الضرورة والاضطرار بعد فشل مشروع الاستسلام؟
ولو لم يدافع فماذا عساه أن يفعل؟ لا يسعنا أن نسمّي مثل هذه الشهادة سوى الدفاع عن النفس ، ونعتقد أنّ الإمام بريء من مثل هذه النهضة والثورة ، ونرى أنّ هناك خطّة عظيمة وراء قتل الحسين (عليه السلام) في كربلا ، خطّة مدروسة سلفاً جرى بها القلم ، وعلى الإمام (عليه السلام) تنفيذها شاء أم أبى في كربلاء ، وعليه أن يتضرّج بدمه فداءً للقرآن والإسلام . فقد قال الباقر (عليه السلام) : «يا حمران إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه»(1) .
أمّا الدفاع عن النفس فلا يعني سوى الاضطرار للقتل ; لأنّه من المفروض أنّ الإمام حتّى إذا استسلم فإنّه سوف يُقتل ، ولم يكن قد تكهّن بعاقبة الحركة حتّى زُجّ به في كربلاء زجّاً!! إذ ذاك لابدّ من إبطال كافّة كلمات الإمام ـ والعياذ بالله ـ التي قالها (عليه السلام) من قبيل: «لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(2) .
وقوله في ذي حسم حين اقترب من كربلاء: «ألا ترون أ نّ الحقّ لا يعمل به
- (1) الكافي 1: 262 باب أنّ الأئمّة يعلمون علم ما كان . . . ح4 .
- (2) الملهوف: 138، وعنه بحار الأنوار 44: 381 .
(الصفحة 307)
وأ نّ الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة . . .»(1) .
هذا هو الهدف الذي جعل الإمام (عليه السلام) يُقاتل حتّى الموت ويضحّي بالغالي والنفيس من أجل الشهادة .
الشهادة من أجل أهدافه السامية ، لا من أجل الدفاع عن النفس ، الإمام يريد نفسه لهدفه ، للإبقاء على اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفظ القرآن والدفاع عن المظلومين والوقوف بوجه الظالمين ، هذه الأهداف أعزّ على الإمام من نفسه ، فهو القائل: «ألا ترون أ نّ الحقّ لا يُعمل به وأ نّ الباطل لا يتناهى عنه ، فليرغب المؤمن في لقاء ربّه» ليس هنالك من معنى للحياة في قاموس الإمام (عليه السلام) إذا ساد الباطل وضاع الحقّ .
إذن ،فهدف الإمام (عليه السلام) منذالبداية هوالشهادة من أجل الحقّ ،ومَن شكّ فليراجع تاريخ الطبري(2) ليرى كيف أعلن الإمام عزمه في ذي الحسم على الشهادة ، ولا نرى أيّ عقل سليم يقول بأنّ الإمام إنّما قرّر هذه الشهادة يوم عاشوراء بعد أن فشلت جميع مشاريعه الاستسلامية وذلك الذلّ والهوان في مهادنة يزيد ، أملاً في الحصول على بضعة أيّام ، فالإمام (عليه السلام) صمّم على الشهادة مسبقاً ; وهو الذي قال في مكّة: «وكأنّي وأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا» (3).
وقد بلغ به العزم والإرادة درجة جعلته لم يكترث لنصح ابن عباس وابن الحنفية وسائر بني هاشم ، كما لم يزحزحه عن موقفه ما أشار به عليه عبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر ، إلى جانب تحذير عبدالله بن جعفر ومنع عبدالله بن المطيع الإمامَ من الحركة ، إضافة إلى آراء العارفين بأوضاع الكوفة الذين أوجزوا له حالة
- (1) تاريخ الطبري 4: 305 ، وفيه: شهادة بدل «سعادة».
- (2) تاريخ الطبري 4: 305 .
- (3) تقدم في ص 302.
(الصفحة 308)
أهل الكوفة بأنّ «سيوفهم عليه» (1).
فلم تتمكّن كلّ هذه المحاولات الواقعية من ثني الإمام عن عزمه ، فواصل مسيرته وهو يقول: «إنّ الله لا يغلب على أمره»(2) ولمّا بلغ موضع «البيضة» خطب الناس وعسكر الحرّ بن يزيد وكشف النقاب عن أهدافه ، فأيقن الحرّ بعدما رأى من عزم الإمام (عليه السلام) وشدّة حملته على يزيد وأذنابه أنّه مقتول لا محالة ، فحذّره الحرّ بعد أن لمس استعداد الإمام (عليه السلام) للتضحية والقِتال ، أراد الحرّ أن يخوّف الإمام بالموت ، وهل يهاب الموت مثل الإمام؟ ثمّ أنشده الإمام ذلك الشعر الذي ارتجز به الأوسي لابن عمّه حين همّ بنصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
- سأمضي وما بالموت عار على الفتى
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
-
إذا ما نوى خيراً وجاهد مُسلما(3)
إذا ما نوى خيراً وجاهد مُسلما(3)
نعم ، فقد جرت عادة أئمتنا (عليهم السلام) على تذكير الناس بالموت ، وليس لنصح المشفقين ولا خوف المرعوبين ولا تهديد الجبّارين أن يثنيهم عن عادتهم ، فهم ممّن يستبشرون بالموت والشهادة ، الموت من أجل حياة القرآن والإسلام ، الموت من أجل بقاء اسم صاحب الرسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وإذا كان حالهم هكذا فكيف يزعم المؤلّف أنّ شهادته لم تكن سوى الدفاع عن النفس ، وخاصّة حين يئس تماماً من الحياة وأغلقت عليه جميع منافذها!
إنّنا نلهج بخطاب الإمام (عليه السلام) : يا أبا الأحرار ، يا قبلة الثوّار ، يا مصباح الهدى وسفينة النجاة ، يا محيي القرآن والسنّة ، مدرستك مدرسة الجهاد والتضحية والشجاعة والقيم الإنسانية ، مدرسة التوحيد والإخلاص والعبودية ، مدرسة
- (1) بحار الأنوار 44: 364 .
- (2) تقدّم في ص 302.
- (3) الكامل لابن الأثير 4: 49 .
(الصفحة 309)
العلم والحلم والسماحة والزهد والعزّة والكرامة ونصرة المظلوم ودحر الظالم .
وأنت تخاطب الإمام; يا عصارة الكمال ، أيّها الربّاني ، يا أبا الأحرار ، ويا أيّها المجاهد . . . وعليه : فنحن متّفقون وإيّاك في أنّه أبو الأحرار والجهاد والثورة .
ولكن الاتّفاق هذا هل من شأنه أن يستمرّ؟ طبعاً لا ، إنّ هذا الاتّفاق يجعلنا وإيّاك نقف على مفترق طرق ، فأنت تضيف مخاطباً الإمام بأنّك لم تكن على علم بحادثة كربلا ، وهذا ما أوقع عيالاتك في الأسر دون علم ، أنت الإمام الرؤوف العطوف إلاّ أنّ كربلائك أضرّت بالإسلام وأذاقت صحبك الذلّ والهوان! وهذا ليس ذنبك بل ذنب يزيد ، يا أبا الأحرار لقد استسملت لعساكر يزيد بعد أن يئست من النصر ، ورأيت كثرة عدّة وعدد عدوّك وخانتك القوّات الموالية ، فاقترحت وضع يدك بيد يزيد ، ورغم هذه الذلّة والهوان لم يوافقك يزيد ، بل كنت مستعدّاً لركوب العار لو أيقنت بعدم القتل ولم يكن أمامك أيّها الثائر سوى الدفاع عن نفسك العزيزة لا من أجل وظيفة سماوية أو مهمّة إنسانية علّك تنجو من الموت .
أمّا نحن فنقول:
يا حسين، يا أبا الأحرار، يا قبلة الثوّار، يا مدافِعاً عن القرآن، يا محرّر المظلومين، يا باب نجاة الاُمّة، ويا مصباح الهدى
أنت الحرّ الذي نهضت عن علم ودراية من أجل كسر القيود والأغلال التي كُبِّل بها الناس ، وإيصالهم إلى السموّ والكمال ، وإنقاذ المظلومين من نير المستكبرين يزيد وأعوانه الملعونين ، وقد اجتهدتَ في تحقيق أهدافك حتّى آثرت التضحية والشهادة وسبي أهل بيتك على الحياة التي اعتبرتها بَرَمَاً . لقد نهضت بالأمر من أجل إحياء السنّة وإماتة البدعة ولم يكن همّك سوى الحقّ ، فلم تنفك عن ترديد «ألا ترون أ نّ الحقّ لا يُعمل به» فكأنّي بك تقول: ما أصنع بالحياة هي خالية من مفردات الحقّ والقرآن والإسلام؟
(الصفحة 310)
لقد سطّرت بدمك الزكي ملحمة لم ولن يشهد التأريخ مثيلاً لها ، لتبقى صرخاتك تدوّي في نفوس الثوّار ، وليردّد من خلفك المؤمنون «لا نرى الموت إلاّ سعادة» ولينهضوا بالأمر أينما طالعهم عدم العمل بالحقّ والتناهي عن الباطل .
فالموت من أجل الإسلام ليس بموت ، وكيف تموت اُمّة تحيا في أعماقها روح محمّد وعليّ والحسين (عليهم السلام) ، ستبقى كعبة تزورك الثوّار وهي تلهج بقلوبها ومشاعرها قبل لسانها:
نشهد أنّك جاهدتَ في الله حقّ جهاده وصبرت على الأذى في جنبه واستنقذت العِباد من الجهالة وحَيرة الضلالة . ونشهد أنّك نور الله الذي لم يطفأ ولن يطفأ أبداً ، وأنّك وجه الله الذي لم يهلك ولن يهلك أبداً .
وهذا ليس صوتنا بل صوت القرآن الحكيم:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1).
وأخيراً نرجو من جميع الإخوة القرّاء أن ينظروا بعين العفو والصفح لما كان قد بدر منّا من زلل وخطأ وأن يتحفونا بما لديهم من آراء ومقترحات من شأنها خدمة الإسلام والمسلمين ، كما نودّ أن نلفت انتباه الإخوة إلى أنّنا كنّا ننوي أن نجعل بحث «آية التطهير» من ضمن مباحث هذا الكتاب إلاّ أنّنا تحاشينا زيادة حجم الكتاب عن الحدّ المتعارف ، وقد قمنا بطبع هذا البحث بصورة مستقلّة ليطّلع عليها القرّاء الأعزّاء . وما توفيقي إلاّ بالله العزيز ، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب .
الإشراقي ـ اللنكراني
- (1) سورة آل عمران: الآية 196.