(الصفحة 57)
ولا يتوانوا في أدائها ، وذلك أنّهم مسؤولون عنها يوم القيامة .
وبناءً على ما تقدّم فالذي نستفيده من الآية الكريمة ورواية التفسير:ـ
1 ـ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كالنبي (صلى الله عليه وآله) هم هُداة وأدلاّء على الطريق .
2 ـ أنّهم إنّما يستندون إلى الآيات القرآنية في هذه الهداية .
3 ـ أنّ وظيفة الأئمّة كوظيفة النبي بالتمسّك بالقرآن من أجل الهداية .
4 ـ أنّ هذه الوظيفة ـ أي هداية الأُمّة بالقرآن ـ هي وظيفة أبديّة إلى يوم القيامة .
5 ـ أنّ مسؤوليّة الأئمّة كالنبي في القيام بهذه الوظيفة ، فهي مسؤولية كبيرة وليس لهم أن يقصّروا في أدائها .
6 ـ الأئمّة كرسول الله (صلى الله عليه وآله) سيسألون يوم القيامة عن القيام بهذه الرسالة الخطيرة .
7 ـ للأئمة كما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إحاطة تامّة بالقرآن وأسراره ; لأنّه ذكر لهم كما هو ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) :
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . وعليه : فإنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زُعماء مسؤولون ، وأنّ القرآن قد حباهم بشرائط الإمامة وألهمهم الإحاطة باُمور المسلمين ، وعليهم أن يقوموا بوظيفتهم بإمامة كافّة شؤون المسلمين وحلّ مشاكلهم وتلبية متطلّباتهم ، وأن يأخذوا بأيديهم من خلال التمسّك بالقرآن إلى شاطئ الأمان والسعادة والفلاح .
ملاحظة : لقد تواترت الروايات التي تجاوزت حدّ الاستفاضة في تفسير هذه الآية ، ومن أراد المزيد من أجل الوقوف على صحّة هذا الإدّعاء فليراجع الأخبار الواردة بهذا الشأن .
8 ـ ورد في الكتاب المذكور والباب المذكور عن الصدوق في كتاب الأمالي وعيون الأخبار ، عن علي بن الحسين بن شاذويه ، وجعفر بن محمّد بن مسرور
(الصفحة 58)
جميعاً ، عن محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن الريّان بن الصلت ، عن الرضا (عليه السلام) ـ في حديث ـ أنّه قال للعلماء في مجلس المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (1)، فقالت العلماء: أراد الله بذلك الاُمّة كلّها ، فقال الرضا (عليه السلام) : «بل أراد الله ـ عزّوجلّ ـ العترة الطاهرة»(2) .
بحث مختصر:
الاصطفاء : على وزن الافتعال وأصله من الصفو ، والصفو يعني الخالص ، وعليه : فإنّ الاصطفاء يعني الانتخاب الخالص ، والمصطفى يعني المنتخب الخالص «صفوة الشيء : خالصه» .
عباد جمع عبد ، والعبد هنا بمعنى العابد ، لا بمعنى المملوك ; لأنّ جمع العبد بمعنى المملوك هو عبيد .
قال الراغب الإصفهاني في المفردات: «وجمع العبد الذي هو مسترقّ عبيد ، وجمع العبد الذي هو عابد عباد» .
ويؤيّد القرآن الكريم قول الراغب ، فقد نعتت جميع الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الكُفّار الذين اتّبعوا هوى أنفسهم والأوثان بالعبيد ، بينما أطلقت لفظ «العباد» على من عبدالله سبحانه ، ولم تستعمل لفظة «العباد» في مقابل «الإماء» إلاّ في آية واحدة هي
{وَأَنكِحُوا الاَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}(3) ، ولا يبعد هنا أن تكون لفظة «العباد» قد جاءت من أجل التشاكل اللفظي .
- (1) سورة فاطر: الآية 32.
- (2) وسائل الشيعة 27: 72، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 7 ح 33233 عن أمالي الصدوق: 615 ح 843 و عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 228 ب 23 ح 1 .
- (3) سورة النور: الآية 32 .
(الصفحة 59)
ويؤيّد ذلك ما ورد في النصوص الفقهيّة وآثار الأئمّة (عليهم السلام) ، حيث وردت كلمة «العبيد والإماء» حيثما كان الكلام عن العبد المملوك . على كلّ حال فإنّ العباد في الآية الشريفة هي جمع عابد .
فقد ردّ الإمام الرضا (عليه السلام) على العُلماء الذين قالوا: إنّ المراد بالآية الشريفة الأُمّة كلّها ، بأنّ الله أراد بها العترة الطاهرة ، فاحتجّ (عليه السلام) بالآية
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} حيث المصطفى من العباد غير جميع العباد ، فهو أضيق دائرة ، ولمّا كان المصطفى يعني المنتخب الخالص ، فإنّهم من العباد المخلصين والموحّدين ، ولذلك لابدّ أن يكون هؤلاء الأفراد مصطَفين تامّي الإخلاص في عبادة الحقّ .
وبعبارة أوضح: أنّ مُراد الآية: أخلص الناس في عبادة الحقّ من بين عباد الله الموحّدين ، وليس هناك بين الناس أخلص في عبادة الله تعالى ـ بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ غير الأئمّة (عليهم السلام) .
ولذلك قال (عليه السلام) : ليس المراد بالعباد ـ هنا بقرينة الاصطفاء ـ سوى العترة الطاهرة ، فالقرآن يقول: ليس لكلّ فرد وراثة القرآن ، وإنّ وراثته مختصّة بمن اصطفينا من العباد ، وقال الرضا (عليه السلام) : نحن ورثة القرآن ، فالأئمّة هم ورثة الكتاب ، ولمّا كان الانتقال مُعتبر في مفهوم «الإرث» يتبيّن أنّ ما أفاض القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله) إنّما ينتقل إلى الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، ونحن نعلم أنّ القرآن إنّما أفاض على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) العلم والحكمة والإمامة والولاية والمسؤولية وأمثال ذلك ، وعليه : فالأئمّة إنّما يرثون هذه الأمور عن النبي (صلى الله عليه وآله) . فكما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عالم بدقائق القرآن وأسراره ، فالأئمة (عليهم السلام) عالمون بها بالوراثة ، وكما أنّ النبي يدرك بالوحي بطون القرآن ، فإنّ للأئمّة مثل هذا الإدراك والإحاطة بالوراثة .
وأخيراً فكما أناط القرآن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وظيفة الزعامة وتفسير الأحكام وبيان التعاليم وإمامة الأُمّة الإسلامية فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) قد ورثوا عنه هذه الوظائف ، ولذلك
(الصفحة 60)
لمّا كان يوم الدار ـ أوائل بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ جعل النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) خليفته ونصبه إماماً ، فقال: «هذا أخي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي»(1) وقد صرّحت بعض الروايات بأنّ عليّاً (عليه السلام) قال: «يا رسول الله وما أَرِثُك؟» ، قال: «ما ورثت الأنبياء قبلي: كتاب الله وسنّتي»(2) .
خلاصة ما مرّ:
إنّ الإسلام ليس دين الاعتزال والرهبة ، بل دين يشتمل على برامج وتعاليم من شأنها تنظيم حياة البشرية وضمان المعيشة الهنيئة التي يسودها العدل والإنصاف والمساواة والإخاء والتساوي في الحقوق الاجتماعية المقرّرة لكلّ طبقة بما يصونها عن السلب والنهب ، وإنّ هناك حاجة ماسّة في هذا الدين لتدوين دستوره المتين الذي يقف حائلا أمام الظلمة ، فلا يدعهم يمدّون أيديهم ليعتدوا على حقوق الأُمّة ، كما يتكفّل بحفظ الشخصية الإنسانية لكلّ فرد في المجتمع من سطوات الجبابرة وعداونهم ، وتتحقق في ظلّه العدالة الاجتماعية والتمتّع بالحقوق الفردية والجماعية وارتفاع المستوى العلمي والثقافي للناس ونيلهم السعادة الدنيوية التي تؤهّلهم لنيل الخلود واستثمار الإيمان الذي يدعو إلى كسب الفضائل الأخلاقية والمعنوية ، وممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم هو دستور الإسلام الذي تكفّل بتحقيق هذه الأهداف:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}(3) .
إلاّ أنّ هذا القرآن قد تعرّض لشؤونُ حياة الأُمّة من خلال آياته الشريفة ، ولا تتفق هذه الآيات بأجمعها في كيفيّة شرحها لمفردات الحياة التي تعيشها الأُمّة ،
- (1) علل الشرائع 1: 170، ب 133 ح 2، وعنه بحار الأنوار 18: 178 ح 7 .
- (2) تفسير فرات الكوفي: 227 ح 304، بحار الأنوار 38: 346 ح 21، تفسير الميزان 8 : 117 .
- (3) سورة الإسراء : الآية 9 .
(الصفحة 61)
فهناك بعض الآيات القرآنية التي وردت بصيغة الرمز والإشارة والكناية ، بل وردت مُبهمة متشابهة بحيث قد تكون أحياناً أقرب إلى خلاف المراد في دلالتها اللفظية ، وهذا ما أشارت إليه الآية:
{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(1) .
فالقرآن شأنه شأن سائر القوانين ، حيث وردت بعض نصوصه مجملة ، وواضح أنّ المجمل يحتاج إلى ما يُفسّره ويوضّحه .والقرآن كسائر القوانين ، قد يصدر أحكامه على نحو العموم ثمّ يخصّصها بينما يصدرها على نحو الإطلاق لكنّها تتضمّن التقييد . فأحكامه على أنواع من قبيل العام والخاص والمطلق والمقيّد و . . . .
والقرآن يتطرّق أحياناً إلى قصص الاُمم الماضية من أجل تحقيق بعض الأهداف الكُبرى وإثبات دعوى النبوّة ، فيورد حقبة تأريخية عميقة في جملة قصيرة مقتضبة ، بالشكل الذي يتطلّب الوقوف على تلك الحقائق إلى مؤرّخ عالم بنشوء الأديان وقصص سالف الاُمم ومتخصّص بلغة القرآن ، والقرآن قد يصدر حكماً معيناً لمدة استناداً للمقتضيات السياسية والمصالح الإسلامية العليا ثمّ ينسخه بحكم حقيقي آخر لابدّ من مراعاته وتطبيقه ، والقرآن قد عيّن المقنن والمنفذ من أجل بسط العدل والقسط وتحقق الوحدة والتضامن والمجتمع الإسلامي ، ليتسنى للاُمّة أن تقيم الحكومة العادلة في ظل ولاية وزعامة هؤلاء الأفراد .
وأخيراً فإنّ بعض الآيات القرآنية تحمل رسالة دعوى الناس إلى الصراط المُستقيم الذي يؤدّي إلى السعادة الأبديّة والجنّة الخالدة ، إلى جانب كسب الفضائل الإنسانية وبلوغ السموّ والكمال .
- (1) سورة آل عمران: الآية 7 .