(الصفحة 86)
الآية الكريمة تفيد أنّ هؤلاء زُعماء وقادة وفقهاء في الدين ، وعُلماء بتعاليم الإسلام ، وخُبراء ببرامج وخطط القرآن ، وعُرفاء بالسياسة والنظم الاجتماعيّة وبكافّة خفايا ومغيبات العالم . فالآية الشريفة بصدد بيان مقام وشخصية الإمام وشرائط إمامة المسلمين من وجهة نظر القرآن الكريم .
وعليه : فالفارق في النتيجة هو أنّ النبيّ ـ المعلّم الأوّل ـ هو مربّي طائفة من بني هاشم ، ونتيجة هذا الأمر مفيدة للغاية وقيّمة ، ونفس هذا النبي معلّم لعامّة الناس ، إلاّ أنّ نتيجة هذا الأمر تعتمد على نفس المسلمين ، ومعلوم أنّ توقّع النبي من الطائفة الأُولى لا يمكن أن يكون كتوقعّه من عامّة الناس أبداً .
وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ قال: «لا يُقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة»(1) .
وقال (عليه السلام) : «آل النبي عليه الصلاة والسّلام موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه ومؤئل حكمه وكهوف كتبه وحبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه» (2).
فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيد أن ليس هنالك سوى أهل البيت الذين لهم الإحاطة بالدين ، وهم عيبة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وملاذ المسلمين في النوائب والمصائب ، وهذا دليل على صحّة ما أوردناه سابقاً بشأن الآيات التي صرّحت بهذا الأمر ، حيث أثبتنا حينها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وبفضل التعليم المُباشر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم معرفة واطّلاع كامل على جميع أسرار القرآن وكافّة شؤون الإسلام والحوادث الغيبية والخفايا الكونية ، كما يؤكّد على أنّ تعليمات النبي وإن كانت عامّة
- (1) (2) نهج البلاغة لمحمّد عبده : 82 ـ 83 .
(الصفحة 87)
وللمسلمين أن يغترفوا من هذه العلوم والمعارف القرآنية والأسرار الدينية ، غير أنّه لا يمكن مقارنتهم قط بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فهم معدن العلم والحكمة ، وإليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، ولا يستند أحد إلى علمه بشأن الدين إلاّ أن يخرج عن الاعتدال أو يتخلّف عن قافلة المسلمين ، وبناءً على هذا فالإشكال السابق الذي يُطرح بشان مزية الأئمّة (عليهم السلام) ليس بوارد ، حيث دلّتنا الآيات الكريمة على فضلهم وسبب ترجيحهم .
فهرس الكتاب إلى هنا:
ما مرّ معنا لحد الآن بعض الأُسس المتينة في الإمامة ، نشير إلى فهرسها بصورة مختصرة:
1 ـ الدين الإسلامي دين خالد وعلى هذا الدين أن يعتمد السبل التي من شأنها الإبقاء على أبديّته .
2 ـ يقتضي حكم العقل أن يوفّر كلّ ذي هدف إذا أراد لهدفه الإتقان كافّة العلل والأسباب التي تؤثّر في تحقيق الهدف وثباته ، ولمّا أراد الحقّ الخلود للدين الإسلامي فبحكم العقل قد أعدّ موجباته ، وبخلافه سينتقض الغرض ، وتتصدّع عرى الدين واُسس الإسلام .
3 ـ لقد تكفّل الحقّ بنصب الأئمّة على ضوء الآيات القرآنية والأخبار التي صرّحت بهذا الأمر ، بغية الحيلولة دون فناء الدين وبقاء كلمة التوحيد ، وإعداد العناصر والأفراد الذين بلغوا قمّة الكمال الإنساني والذين يعدّون الخلق إلى العالم الأُخروي الأبدي .
4 ـ الأئمّة على ضوء تصريح ونصّ رسول الله هم اثنا عشر ، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا الأمر ، وسيأتي تفصيله في المجلد الثاني من الكتاب .
(الصفحة 88)
5 ـ لأئمّة الإسلام وظيفة في زعامة الأُمّة وهدايتها ، وهدفهم إقامة النظام الاجتماعي على ضوء القرآن والسُنّة النبويّة .
6 ـ إمامة أئمّة الإسلام خالدة أبديّة .
7 ـ واجب الأُمّة تجاه هؤلاء الأئمّة هو الانقياد والطاعة والتسليم ، وذلك بفضل مزاياهم في كافّة شؤون الزعامة والإمامة .
8 ـ الإمام كما يصفه أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام) من يقوم لله بهذه الوظيفة، ويعمل بالعدل والقسط والانتصار للمظلوم وإنقاذ الضعفاء وإعمار البلاد وضمان حقوق الأفراد، وإحياء معالم الدين وسنن القرآن، وعدم الاغترار بالدنيا وزخارفها.
ونخوض الآن في شرائط الإمامة رغم اتّضاح هذا الأمر من خلال الأبحاث السابقة ، ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذا الأمر ، لابدّ من التعرّض إلى:
سؤال يثير الأسف:
لقد ذكرتم بأنّ القرآن الكريم أشار إلى مكانة ومنزلة الإمام ، وأنّه يستند في تشكيله للحكومة إلى القرآن الذي يعتبر هو الدستور ، وقلتم بأنّ القرآن يرى الأئمّة هم زعماء الأُمّة الذين يقيمون حكم الله ويعملون على إحقاق حقوق الأُمّة وإعمار البلاد ، وقلتم وقلتم . . . وهنا يرد هذا السؤال الذي يثير الأسى والأسف ، فإذا كان الإمام بهذه المنزلة التي رسمها القرآن وحدّد معالمها ، لِمَ لم يصبح الأئمّة الأطهار زُعماء للاُمّة؟ وإذا كانت وظيفة الإمام تكمن في القيام من أجل ضمان مصالح المجتمع وبسط العدل والقسط في ربوع البلاد ، لماذا لم ينهض أئمّة الإسلام واعتزلوا الساحة ، ولم يتزعّم أحد منهم الحكومة سوى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ؟ أفلم ينصّبهم الله أئمّة؟ والقرآن يدعو لقيام الحكومة الإسلامية بزعامة هؤلاء
(الصفحة 89)
الصفوة! وهل هذا النصب الذي لم يكن له من يشغله وهذه الحكومة التي نهض بها من ليس لها بأهل! أفلا يدعو هذا الأمر إلى أنّ ذلك النصب والتصريح بزعامة هؤلاء للحكومة كان لغواً وعبثاً؟
الجواب :
هذا السؤال مؤسف ، مؤسف في أنّه لِمَ لم يتزعّم أولياء الله الحكومة ، في حين وقعت بيد بني أُميّة وبني العباس!
وهنا لابدّ من القول بأنّ المراد لم يكن حتمية تزعّم الصفوة للحكومة ، بل كان الحديث في أنّ القرآن يرى أنّ هذه الصفوة هي الجديرة بمقام الإمامة وزعامة الحكومة الإسلامية . هذا هو مشروع الإسلام وتخطيط القرآن ، أمّا المنفّذ لهذا المشروع فهو الأُمّة ، الأُمّة كانت موظّفة بإقصاء بني أُميّة عن الحكم والانقياد لأولياء الله من بني هاشم ، إلاّ أنّها لم تفعل ولم تنفّذ الخطّة القرآنية ، كما ولّت ظهرها لسائر أحكام القرآن وتعاليم الإسلام ، فهل يعتبر قانون تحريم المسكّرات لغواً إذا ما تفشّت هذه المسكّرات في أوساط المجتمع؟ أم أنّ التحريم صائب لكن الأُمّة شقية ، مع ذلك لابدّ من القول بأنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد نهضوا وقاموا وسيأتي اليوم الذي تشكّل فيه حكومة العدل الإلهي العالمية ، وسنترك تفاصيل هذا الأمر إلى المجلد الثاني ، ليعلم حينها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) قد نهضوا بالأمر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وقد شكّلوا الحكومة الحقّة أو كشفوا للآخرين عن معالمها ، وأخيراً رسموا طريق الحقّ حتّى في حكومة الآخرين . . .
سنتابع الإجابة عاجلاً .
(الصفحة 90)