(الصفحة 230)
إنّ أقصى ما تقتضيـه أصالـة البراءة هو رفع الجزئيـة في حال النسيان فقط، ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلاّ مع استيعاب النسيان لتمام الوقت، فلو تذكّر في أثنائـه بمقدار يمكنـه إيجاد الطبيعـة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالـة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التامّ في ظرف التذكّر، بل مقتضى إطلاق الأدلّـة وجوبـه، لأنّ المأمور بـه هو صرف وجود الطبيعـة التامّـة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت، ويكفي في وجوب ذلك التمكّن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت، ولا يعتبر التمكّن من ذلك في جميع الآنات.
والحاصل أنّ رفع الجزئيّـة في حال النسيان لا يلازم رفعها في ظرف التذكـر، لأنّ الشكّ فـي الأوّل يرجـع إلى ثبوت الجزئيّـة في حـال النسيان، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر، والأوّل مجرى البراءة، والثاني مجـرى الاشتغال. هـذا إذا لم يكن ذاكـراً فـي أوّل الوقت ثمّ عـرض لـه النسيان في الأثناء، وإلاّ فيجـري استصحاب التكليف الثابت عليـه فـي أوّل الـوقت، للشـكّ فـي سقـوطـه بسبب النسيـان الطـارئ الـزائـل فـي الوقت(1)، انتهى.
وفيـه :
أنّك عرفت أنّ محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق، وإلاّ فلا مجال لأصالـة البراءة العقليّـة مطلقاً، ومع عدم الإطلاق، كما هو المفروض نقول: لاموقع لهذا التفصيل، لأنّ الناسي في حال النسيان لا إشكال في عدم كونـه مكلّفاً بالمركّب التامّ المشتمل على الجزء
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 220 ـ 221.
(الصفحة 231)
المنسي، لعدم كونـه قادراً عليـه، بل إمّا أن نقول بعدم كونـه مأموراً بالمركّب الناقص أيضاً، كما حكي عن السيّد المحقّق الميرزا الشيرازي (قدس سره)
. وإمّا أن نقول بكونـه مكلّفاً بماعدا الجزء المنسي، كما حكي عن تقريرات بعض الأجلّـة لبحث الشيخ، وإمّا أن نقول بما أفاده المحقّق الخراساني(1) الذي ارتضاه المحقّق النائيني(2) من كون المكلّف بـه أوّلا في خصوص الذاكر والناسي هو خصوص ماعدا الجزء المنسي، ويختصّ الذاكر بخطاب يخصّـه بالنسبـة إلى الجزء المنسي. وعلى التقادير الثلاثـة تجري البراءة مطلقاً.
أمّا على التقدير الأوّل، فلأنّـه بعد الإتيان بالفرد الناقص في حال النسيان يشكّ في أصل ثبوت التكليف، لاحتمال اختصاص اقتضاء الجزء المنسي بحال العمد، وكذا على التقدير الثاني، فإنّـه بعد الإتيان بما هو المأمور بـه بالنسبـة إليـه يشكّ في توجّـه الأمر بالمركّب التامّ، وهو مجرى البراءة، كما أنّـه بناءً على التقدير الثالث يشكّ في كونـه مشمولا للخطاب الآخر المختصّ بالذاكرين، والمرجع فيـه ليس إلاّ البراءة.
وبالجملـة: لا مجال للإشكال في سقوط الجزء عن الجزئيّـة في حال النسيان وبعده يرجع الشكّ إلى الشكّ في توجّـه الأمر المتعلّق بالفرد التامّ.
نعم قد عرفت: أنّـه لو لم يأت بالمأمور بـه أصلا في حال النسيان لا يبقى شكّ في عدم سقوط الأمر، وهذا واضح، وأمّا مع الإتيان بالفرد الناقص ـ كما هو المفروض ـ لا يعلم ببقاء الأمر وتوجّهـه إليـه.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 418.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 213 ـ 214.
(الصفحة 232)
وأمّا ما ذكره من الاستصحاب فيما إذا كان ذاكراً في أوّل الوقت ثمّ عرض لـه النسيان، ففيـه أنّـه في حال النسيان نقطع بارتفاعـه، ونشكّ بعد الإتيان بالفرد الناقص وزوال النسيان في عوده، والأصل يقتضي البراءة، كما هو واضح.
تتمّة : في ثبوت الإطلاق لدليل الجزء والمركّب
قد عرفت أنّ مركز البحث في جريان البراءة العقليّـة هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق يقتضي الشمول لحال النسيان أيضاً، وكذا ما إذا لم يكن لدليل المركّب إطلاق يؤخذ بـه ويحكم بعدم كون المنسي جزءاً في حال النسيان، اقتصاراً في تقيـيد إطلاقـه بخصوص حال الذكر. فالآن نتكلّم في قيام الدليل وثبوت الإطلاق لشيء من الدليلين وعدمـه وإن كان خارجاً عن بحث الاُصولي، فنقول:
قد أفاد المحقّق العراقي في هذا المقام ما ملخّصـه: أنّ دعوى ثبوت الإطلاق لدليل المركّب مثل قولـه تعالى:
(أَقِيمُوا الصَلاةَ )(1) ساقطـة عن الاعتبار، لـوضوح أنّ مثل هـذه الخطابات إنّما كانت مسوقـة لبيان مجـرّد التشريع بنحو الإجمال.
وأمّا الدليل المثبت للجزئيـة فلا يبعد هذه الدعوى فيـه، لقوّة ظهوره في الإطلاق مـن غير فرق بين أن يكون بلسان الوضع كقولـه:
«لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»(2) وبين أن يكون بلسان الأمر كقولـه: اركع في الصلاة، مثلا.
- 1 ـ البقرة (2): 43.
- 2 ـ عوالي اللآلي 1: 196 / 2، مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب1، الحديث5.
(الصفحة 233)
نعم لو كان دليل اعتبار الجزء هو الإجماع يمكن تخصيص الجزئيّـة المستفادة منـه بحال الـذكر، لأنّـه القـدر المتيقّن، بخلاف ما لو كـان الدليل غيره، فإنّ إطلاقـه مثبت لعموم الجزئيـة لحال النسيان.
لايقال: إنّ ذلك يتمّ إذا كان الدليل بلسان الوضع، وأمّا إذا كان بلسان الأمر فلا، لأنّ الجزئيـة حينئذ تـتبع الحكم التكليفي، فإذا كان مختصّاً بحكم العقل بحال الذكر فالجزئيـة أيضاً تختص بحال الذكر.
فإنّـه يقال: إنّـه لو تمّ ذلك فإنّما هو على فرض ظهور تلك الأوامر في المولويّـة النفسيـة أو الغيريّـة، وإلاّ فعلى ما هو التحقيق من كونها إرشاداً إلى جزئيـة متعلّقاتها فلايستقيم ذلك، إذ لا يكون حينئذ محذور عقلي، مع أنّـه على فرض المولويّـة ولو بدعوى كونها بحسب اللب عبارة عن قطعات ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب غير أنّها صارت مستقلّـة في مقام البيان نقول: إنّ المنع المزبور إنّما يتّجـه لو كان حكم العقل بقبح تكليف الناسي من الأحكام الضروريّـة المرتكزة في الأذهان بحيث يكون كالقرينـة المختصّـة بالكلام مانعاً عن انعقاد الظهور، مع أنّـه ممنوع، لأنّـه من العقليّات التي لا ينتقل الذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل، فيصير حينئذ من القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّيـة الظهور لا عن أصل الظهور.
وعليـه يمكن أن يقال: إنّ غايـة ما يقتضيـه الحكم العقلي إنّما هو المنع عن حجّيـة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبـة إلى الحكم التكليفي، وأمّا بالنسبـة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئيـة وإطلاقها لحال النسيان فحيث لا
(الصفحة 234)
قرينـة على الخلاف من هذه الجهـة يؤخذ بظهورها في ذلك.
وعلى فرض الإغماض عـن ذلك أيضاً يمكن التمسّك بإطلاق المادّة لـدخل الجزء في الملاك والمصلحـة حتّى في حال النسيان، فلا فرق حينئذ في صحّـة التمسّك بالإطلاق بين كون الدليل بلسان الحكم التكليفي أو بلسان الوضع(1)، انتهى.
وفي جميع الأجوبـة الثلاثـة التي أجاب بها عن التفصيل الذي ذكره بقولـه: «لا يقال» نظر.
أمّا الجواب الأوّل الذي يرجع إلى تسليم التفصيل مع فرض ظهور تلك الأوامر في المولويّـة وعدم استقامتـه مع كونها إرشاداً إلى جـزئيـة متعلّقاتها، فيرد عليـه: أنّ الأوامر الإرشاديّـة لا تكون مستعملـة في غير ما وضع لـه هيئـة الأمر وهو البعث والتحريك إلى طبيعـة المادّة، بحيث كان مدلولها الأوّلي هو جزئيـة المادّة للمركّب المأمور بها في المقام، فكأنّ قولـه: اسجد في الصلاة، عبارة اُخرى عن كون السجود جزءً لها. بل الأوامر الإرشاديّـة أيضاً تدلّ على البعث والتحريك، فإنّ قولـه: اسجد في الصلاة، معناه الحقيقي هو البعث إلى إيجاد سجدة فيها. غاية الأمـر أنّ المأمـور به بهذا الأمـر لايكون مترتّباً عليه غـرض نفسي، بل الغرض من هذا البعث إفهام كون المادّة جزءً وأنّ الصلاة لا تـتحقّق بدونها.
وبالجملـة: فالأمر الإرشادي ليس بحيث لم يكن مستعملا في المعنى الحقيقي لهيئـة الأمر، بل الظاهر كونـه كالأمر المولوي مستعملا في البعث
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 423 ـ 424.