(الصفحة 235)
والتحريك. فإذا كان الحكم التكليفي مختصّاً بحال الذكر لكان الجزئيـة أيضاً مختصّـة بـه، من غير فرق بين كون الدليل بلسان الأمر المولوي أو يكون بلسان الأمر الإرشادي.
وأمّا الجواب الثاني فيرد عليـه أوّلا: ما عرفت سابقاً من أنّـه لا فرق فيما لو كان المخصّص عقليّاً بين كون ذلك الحكم العقلي من العقليات الضروريّـة، أو من العقليات التي لا ينتقل الذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ الموجبـة لـه، فإنّ في كلتا الصورتين يكون المخصّص كالقرينـة المختصّـة بالكلام مانعاً عن انعقاد الظهور.
وثانياً: أنّـه لو سلّم ذلك في العقليّات الغير الضروريّـة، وأنّها من قبيل القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّيـة الظهور لا عن أصلـه فنقول: إنّ ما ذكره من التفصيل بين حجّيـة ظهور الأوامر في الإطلاق بالنسبـة إلى الحكم التكليفي وبين حجّيتها فيـه بالنسبـة إلى الحكم الوضعي، فالحكم العقلي مانع عن الأوّل دون الثاني، ممنوع، فإنّ الحكم الوضعي إذا كان منتزعاً عن الحكم التكليفي وتابعاً لـه يكون في السعـة والضيق مثلـه، ولا يمكن أن يكون الحكم التكليفي مختصّاً بحال الذكر، والحكم الوضعي المستفاد منـه مطلقاً وشاملا لحالي الذكر وعدمـه، إذ ليس الظهوران وهما الظهور في الإطلاق بالنسبـة إلى الحكم التكليفي والظهور فيـه بالنسبـة إلى الحكم الوضعي في عرض واحد حتّى لا يكون رفع اليد عن أحدهما مستلزماً لرفع اليد عن الآخر، بل الظهور الثاني في طول الظهور الأوّل ولا مجال لحجّيتـه مع رفع اليد عنـه.
فالمقام نظير لازم الأمارتين المتعارضتين، كما إذا قامت أمارة على الوجوب وأمارة اُخرى على الحرمـة، فإنّ لازمهما هو عدم كونـه مباحاً، إلاّ أنّ
(الصفحة 236)
الأخذ بهذا اللازم بعد سقوطهما عن الحجّيـة لأجل التعارض ممّا لا مجال معـه، لأنّـه فرع حجّيتهما وقد فرضنا خلافـه، هذا.
ولو قلنا بجواز الأخذ بمثل هذا اللازم في الأمارتين المتعارضتين يمكن القول بعدم جواز التفكيك بين الحكم التكليفي والوضعي في المقام، لأنّ كلّ واحد من الأمارتين حجّـة مع قطع النظر عن معارضـة الآخر. غايـة الأمر أنّـه سقط من الحجّيـة لأجلها، وهذا بخلاف المقام، فإنّ الحكم التكليفي من أوّل الأمر مقيّد بحال الذكر، والمفروض أنّـه المنشأ للحكم الوضعي، فلا يمكن التفرقـة بينهما في الإطلاق والتقيـيد.
وأمّا الجواب الثالث فيرد عليـه: أنّ استفادة الملاك والمصلحـة إنّما هو بملاحظـة تعلّق الأمر، بناءً على ما ذكره العدليّـة من أنّ الأوامر الواقعيّـة تابعـة للمصالح النفس الأمريّـة، وإلاّ فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبيل لنا إلى استفادة المصلحـة أصلا.
وحينئذ فنقول: بعدما ثبت كون إطلاق الهيئـة مقيّداً بحال الذكر لامجال لاستفادة الملاك والمصلحـة مطلقاً حتّى في غير حال الذكر، وتعلّق الأمر بالسجود ـ مثلا ـ إنّما يكشف عن كونـه ذا مصلحـة بالمقدار الذي ثبت كونـه مأموراً بـه، ولا مجال لاستفادة كونـه ذا مصلحـة حتّى فيما لم يكن مأموراً بـه، كما في حال النسيان على ما هو المفروض بعد كون هذه الاستفادة مبتنيـة على مذهب العدليّـة، وهو لا يقتضي ذلك إلاّ في موارد ثبوت الأمر، كما هو واضح.
فالإنصاف أنّ هذا الجواب كسابقيه ممّا لا يدفع بـه الإيراد ولا ينهض للجواب عن القول بالتفصيل، بل لامحيص عن هذا القول بناءً على مذهبهم منعدم إمكان كون الناسي مكلّفاً وعدم شمول إطلاق الهيئـة لـه، وأمّا بناءً على ما حقّقناه
(الصفحة 237)
من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبين فلامانع من كونه مكلّفاًكالجاهل وغير القادر وغيرهما من المكلّفين المعذورين، وحينئذ فلا يبقى فرق بين كون الأدلّـة المتضمّنـة لبيان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسان الأمر، كما لايخفى.
المقام الثاني: فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصة السهويّة
واعلم أنّ مورد البحث في هذا المقام ما إذا كان للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً، بحيث لو لم يكن مثل حديث الرفع(1) في البين لكان نحكم بعدم الاكتفاء بالمركّب الناقص المأتي بـه في حال النسيان، لكونـه فاقداً للجزء المعتبر فيـه مطلقاً. غايـة الأمر أنّ محل البحث هنا أنّـه هل يمكن تقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حديث الرفع المشتمل على رفع النسيان حتّى يكون مقتضاه اختصاص الجزئيّـة بحال الذكر وكون المركّب الناقص مصداقاً للمأمور بـه أم لا؟ ولا يخفى أنّـه لابدّ في إثبات أجزاء المركّب الناقص أوّلا: من الالتزام بكون حديث الرفع قابلا لتقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء، وثانياً: من إثبات كون الباقي مصداقاً للمأمور بـه، لأنّـه تمامـه. وتنقيحـه ليظهر ما هو الحقّ يتمّ برسم اُمور:
الأوّل:
أنّك قد عرفت في إحدى مقدّمات الأقلّ والأكثر في الأجزاء أنّ المركّبات الاعتباريّـة عبارة عن الأشياء المتخالفـة الحقائق. غايـة الأمر أنّـه لوحظ كونها شيئاً واحداً وأمراً فارداً لترتّب غرض واحد على مجموعها، وعرفت
- 1 ـ الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 238)
أيضاً أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري أمر واحد. غايـة الأمر أنّـه يدعو إلى كلّ واحد من الأجزاء بعين دعوتـه إلى المركّب، لأنّها هو بعينـه، ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار، ولا يتوقّف دعوتـه إلى جزء على كون الجزء الآخر أيضاً مدعوّاً، بل دعوتـه إلى كلّ واحد من الأجزاء في عرض دعوتـه إلى الآخر، ولا تكون مرتبطـة بها، كما لايخفى.
الثاني:
أنّ تقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حديث الرفع يكون مرجعـه إلى أنّ الإرادة الاستعماليـة في تلك الأدلّـة وإن كانت مطلقـة شاملـة لحال النسيان أيضاً إلاّ أنّ حديث الرفع يكشف عن قصر الإرادة الجدّيـة على غير حال النسيان. وليس معنى رفع الجزئيـة فيـه أنّ الجزئيـة المطلقـة المطابقـة للإرادة الجدّيـة صارت مرفوعـة في حال النسيان، فإنّ ذلك من قبيل النسخ المستحيل، بل معنى الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الكلّي المطابق للإرادة الاستعماليـة، وضمّ ذلك القانون إلى حديث الرفع ينتج أنّ الإرادة الجدّيـة من أوّل الأمر كانت مقصورة بغير صورة النسيان، وهذا هو الشأن في جميع الأدلّـة الثانويّـة بالقياس إلى الأدلّـة الأوّليـة.
فنفي الحكم الحرجي بقولـه تعالى:
(وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَج )(1) مرجعـه إلى كون ذلك كاشفاً عن انحصار مقتضى الأدلّـة الأوّليـة بغير صورة الحرج.
غايـة الأمر أنّها القيت بصورة الإطلاق قانوناً، كما هو كذلك في القوانين الموضوعـة عند العقلاء، وقد تقدّم في مباحث العموم والخصوص شطر من
(الصفحة 239)
الكلام على ذلك(1) وأنّ معنى التخصيص يرجع إلى التخصيص بالنسبـة إلى الإرادة الاستعماليـة لا الجدّيـة، فإنّها من أوّل الأمر لم تكن متعلّقـة بما يشمل مورد المخصّص أيضاً، كما لايخفى.
الثالث:
أنّ معنى رفـع النسيان ليس راجعـاً إلى رفـع نفس النسيان التي هي صفـة منقدحـة في النفس، ولا إلى رفـع الآثـار المترتّبـة عليها، بل معناه هـو رفـع المنسـي بما لـه مـن الآثـار المترتّبـة عليـه. فقـد وقـع فـي ذلك ادّعـاءان:
أحدهما: أنّ المنسي هو النسيان.
ثانيهما: ادّعاء أنّ المنسي إذا لم يترتّب عليـه أثر في الشريعـة يكون كأنّـه لم يوجد في عالم التشريع. وقد عرفت سابقاً أنّ المصحّح لهذا الادّعاء هو رفع جميع الآثار المترتّبـة عليـه، وأمّا رفع بعض الآثار فلا يلائم رفع الموضوع الذي يترتّب عليـه الأثر، كما هو واضح.
الرابع:
أنّ النسيان المتعلّق بشيء الموجب لعدم تحقّقـه في الخارج هل هـو متعلّق بنفس طبيعـة ذلك الشيء مـن غير مدخليّـة الوجـود أو العدم، أو يتعلّق بوجود تلك الطبيعـة، أو يتعلّق بعدمها؟ وجوه، والظاهر هو الأوّل، فإنّ الموجب لعدم تحقّق الطبيعـة في الخارج هو الغفلـة والذهول عن نفس الطبيعـة، لا الغفلـة عن وجـودها، كيف والمفروض أنّـه لم يوجـد حتّى يتعلّق بوجـوده النسيان، ولا الغفلـة عن عدمها، كيف ولا يعقل أن يصير الغفلـة عـن العدم موجباً لـه، كما هو واضح.
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 282.