(الصفحة 158)
نعم عن القاضي نعمان المصري في كتاب دعائم الإسلام الذي نقل عنه صاحب مستدرك الوسائل ، ولم ينقل عنه في الوسائل شيئاً ، أنّه روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال : يحرم من الرضاع كثيره وقليله حتّى المصّة الواحدة ، ثم قال : وهذا قول بيّن صوابه لمن تدبّره ووفّق لفهمه; لأن الله تعالى يقول :
{ وأُمَّهَاتُكُمُ الاّتِى أَرْضَعْنَكُمْ}(1) . والرضاع يقع على القليل والكثير(2) .
وعن ابن الجنيد أنّه قال : قد اختلفت الرواية من الوجهين جميعاً في قدر الرضاع المحرّم ، إلاّ أنّ الذي أوجبه الفقه عندي واحتياط المرء لنفسه : أنّ كلّ ما وقع عليه اسم رضعة ـ وهوماملأت بطن الصّبي إمّابالمصّ أوالوجور ـ كلّ مامحرِّم للنكاح(3)(4).
وكيف كان فهنا طائفتان من الأخبار في بادئ النظر :
الطائفة الاُولى : ما يكون مفاده ذلك ، مثل :
مكاتبة عليّ بن مهزيار ، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّه كتب إليه يسأله عمّا يحرم من الرضاع؟ فكتب (عليه السلام) : قليله وكثيره حرام(5) .
ورواية ضعيفة عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي (عليهم السلام) قال : الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحلّ له أبداً(6) .
- (1) سورة النساء : 4/23 .
- (2) دعائم الإسلام : 2/240 ح901 ، مستدرك الوسائل : 14/366 ـ 367 ، أبواب ما يحرم من الرضاع ب2 ح4 .
- (3) حكى عنه في مختلف الشيعة : 7/30 وجامع المقاصد : 12/215 والروضة البهيّة : 5/162 .
- (4) جواهر الكلام : 29/269 ـ 270 .
- (5) التهذيب : 7/316 ح1308 ، الاستبصار : 3/196 ح 711 ، الوسائل : 20/377 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح10 .
- (6) التهذيب : 7/317 ح1309 ، الاستبصار : 3/197 ح 712 ، الوسائل : 20/378 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح12 .
(الصفحة 159)
وذكر في الوسائل بعد نقل المكاتبة : أقول : حمله الشيخ على ما إذا بلغ الحدّ الذي يحرّم ، فإنّ الزيادة قلّت أو كثرت تحرّم . قال : ويجوز أن يكون خرج مخرج التقيّة; لأنّه موافق لمذهب بعض العامّة(1) انتهى . ويمكن حمله على الكراهة وعلى تحديد كلّ رضعة ، فانّه إن رضع قليلاً أو كثيراً فهي رضعة محسوبة من العدد بشرط أن يروى ويترك من نفسه لما يأتي . وذكر بعد رواية زيد : أقول : حمله الشيخ على ما تقدّم في حديث عليّ بن مهزيار ، واستشهد للتقية بكون طريقه رجال العامّة والزيدية ، ويحتمل الكراهة .
ومضمرة ابن أبي يعفور قال : سألته عمّا يحرم من الرّضاع قال : إذا رضع حتى يمتلىء به بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرّم(2) . والتعليل فيها يدلّ على عدم محرّمية الرضاع مطلقاً .
ومرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، رواه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الرضاع الذي ينبت اللحم والدّم هو الذي يرضع حتى يتضلّع ويتملىء وينتهي نفسه(3) . وفيها أيضاً دلالة على ثبوت الحدّ للرضاع المحرّم .
الطائفة الثانية : ما تدلّ على التحديد ، مثل :
صحيحة حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يحرم من الرّضاع إلاّ ما
- (1) المغني لابن قدامة : 9/192 ، الشرح الكبير : 9/199 ـ 200 ، المجموع : 19/318 ، بدائع الصنائع : 3/405 ـ 406 ، مغني المحتاج : 3/416 .
- (2) التهذيب : 7/316 ح1307 ، الاستبصار : 3/195 ح708 ، الوسائل : 20/383 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب4 ح1 .
- (3) التهذيب : 7/316 ح1306 ، الاستبصار : 3/195 ح707 ، الكافي : 5/445 ح 7 ، الوسائل : 20/383 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب4 ح2 .
(الصفحة 160)
أنبت اللحم والدّم(1) . وغير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال ، ولابدّ من الأخذ بهذه الطائفة دون الطائفة الاُولى لو لم تكن قابلة للجمع الدلالي مع الطائفة الثانية; لثبوت أوّل المرجحات بالإضافة إليها ، وهي الموافقة للشهرة العظيمة المحقّقة ، وعليه فالحدّ معتبر في ثبوت الرضاع المحرّم ، وله تحديدات وتقديرات ثلاثة : الأثر ، والزمان ، والعدد .
أمّا الأثر فهو أن يتحقّق الرضاع بمقدار ينبت اللحم ويشدّ العظم ، ويدلّ عليه مثل صحيحة حمّاد المتقدّمة كصحيحة علي بن رئاب ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشدّ العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : لا ، لأنّه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات(2) . ويستفاد من هذه الرواية أنّ الأثر ـ وهو نبات اللحم وشدّ العظم ـ هو الأصل في الحدّ ، والعدد حاك عنه .
وامّا الزمان فيدلّ عليه مثل رواية زياد بن سوقة قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : هل للرضاع حدّ يُؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرها ، فلو أنّ امرأة أرضعت غلاماً أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة اُخرى من فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما(3) .
- (1) الكافي : 5/438 ح5 ، التهذيب : 7/312 ح1294 ، الاستبصار : 3/193 ح699 ، الوسائل : 20/382 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب3 ح1 .
- (2) التهذيب : 7/313 ح1298 ، الاستبصار : 3/195 ح704 ، الوسائل : 20/374 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح2 .
- (3) التهذيب : 7/315 ح1304 ، الاستبصار : 3/192 ح696 ، الوسائل : 20/374 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح1 .
(الصفحة 161)
وأمّا العدد فيدلّ عليه مثل هذه الرواية .
ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا كون الأصل في التحديد هو الأثر ، فإن تحقّق وحده فالظاهر تحقق الرضاع المحرّم وإن لم يتحقق الزمان أو العدد ، إنّما الإشكال في أنّه لو تحقق أحد الأخيرين ولم يتحقّق الأثر فهل يتحقّق الرضاع المحرّم أم لا ، ونهى في المتن عن ترك الاحتياط مع فرض حصول أحدهما دونه .
هذا ، ولكن قد يقال : إنّ أقصى ذلك من الحكم بالكاشفية ، إ نّما هو بالإضافة إلى غير معلوم الحال لا الأعمّ منه وما علم عدمه ، وهو الذي قوّاه صاحب الجواهر(1)وليس ببعيد .
ثمّ إنّ ظاهر النصّ والفتوى اعتبار الأمرين في لزوم اعتبار الجمع بين الأمرين وعدمه معاً من نبات اللحم واشتداد العظم في تحقّق الحرمة ، فلا يكفي حينئذ أحدهما خلافاً للشهيد في اللمعة(2) حيث إنّه حكي عنه الاكتفاء بأحدهما ، وحكاه السيّد في نهاية المرام عن جماعة(3) وقوّاه وعلّله بالتلازم(4) واحتمل التعليل به في الروضة ، ولكن رجّح اعتبار الجمع(5) . وقطع به في المسالك ، وردّ القول الآخر بالشذوذ ومخالفة النصوص والفتاوى(6) .
ولكنّه ذكر في الجواهر : إنّ التلازم في حيّز المنع خصوصاً بالنسبة إلى انبات
- (1) جواهر الكلام: 29 / 271 ـ 272 .
- (2) اللمعة الدمشقيّة : 111 .
- (3) الروضة البهية : 5/156 ، الحدائق الناضرة : 23/334 .
- (4) نهاية المرام : 1/103 .
- (5) الروضة البهية : 5/156 ـ 157 .
- (6) مسالك الأفهام : 7/213 .
(الصفحة 162)
اللحم ، ضرورة عدم استلزامه لشدّ العظم ، لبطؤ وتحلّله وتغذّيه ، فقد تكون بعض الرضعات مغذّياً للّحم خاصّة وبعضها مغذّياً للعظم خاصّة ، كما في صورة استغناء اللحم عن الغذاء . نعم يمكن دعوى التلازم من جهة اشتداد العظم باعتبار سبق اللحم عليه، فلا يشتدّ العظم إلاّ بعد أن يستغني اللحم المشتمل عليه عن الغذاء ، ويكون الجمع بينهما حينئذ في الأخبار مع اغناء الثاني عن الأوّل لوجهين :
الأوّل : أن نشر الحرمة لهما ، والآخر : أن تغذّى العظم بعد استغناء اللحم عن الغذاء ، فبعض الرضعات ينبت اللحم خاصّة ، وبعضها يشدّ العظم ، والكلّ معتبر مع احتمال عدمه أيضاً ، ضرورة إمكان تصوّر شدّ العظم خاصة من رضاع امرأة بعد استغناء اللحم من امرأة اُخرى(1) .
أقول : أوّلاً : إنّ هنا روايات ظاهرها أنّ الملاك هو انبات اللحم فقط ، مثل :
صحيحة عبيد بن زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) المشتملة على قوله : فما الذي يحرّم من الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدّم(2) .
وصحيحة حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدّم(3).
ورواية ابن أبي يعفور ومرسلة ابن أبي عمير المتقدّمتين ، لكن ذكر في الجواهر: إنّ التحريم بماينبت اللحم يقتضي التحريم بما يشدّ العظم; للإجماع على اعتبار الاشتداد
- (1) جواهر الكلام : 29/272 .
- (2) الكافي : 5/439 ح9 ، التهذيب : 7/313 ح1296 ، الاستبصار : 3/194 ح701 ، الوسائل : 20/379 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح18 .
- (3) الكافي : 5/438 ح5 ، التهذيب : 7/312 ح1294 ، الاستبصار : 3/193 ح699 ، الوسائل : 20/382 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ب3 ح1 .