(الصفحة 568)
ومن جهة اقتضاء سعة دائرة الوجوب لرفع الناس أيديهم عن الفعّاليّة ، والعمل وصرف أموالهم وأوقاتهم وإمكاناتهم في معالجة المرضى المشرفين على التلف لئلا يتلفوا ، وهذا أمرٌ بعيد عن أذهان المتشرّعة حتى العلماء منهم ، حيث إنّهم لا يرون ذلك واجباً ، والتحقيق في محلّه .
وكيف كان فأحد الأسباب الثلاثة الخاصّة الزوجيّة ، بمعنى انّه تجب نفقة الزوجة على الزوج بشرطين :
أحدهما : أن تكون دائمة فلا نفقة للمنقطعة ، أمّا الوجوب في مطلق النكاح أو خصوص الدائمة ، فيدلّ عليه الكتاب والروايات المتكثّرة بل المتواترة ، مثل قوله تعالى :
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1) . وقوله تعالى :
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِن سَعَتِهِ ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ}(2) . وقوله تعالى :
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}(3) . وقوله تعالى :
{الرِّجَالُ قَوَّامُون عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضهُمْ عَلَى بَعْض وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم}(4) . وقوله تعالى :
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوْف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان}(5) بعد قوله :
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} والروايات(6) الواردة في هذا المجال كثيرة ، بل ادّعى صاحب الجواهر أنّها فوق حدّ التواتر(7) . وأمّا عدم الوجوب في النكاح المنقطع فلما مرّ البحث عنه في هذا النكاح ،
- (1) سورة البقرة : 2/233 .
- (2) سورة الطلاق : 65/7 .
- (3) سورة النساء : 4/19 .
- (4) سورة النساء : 4/34 .
- (5) سورة البقرة : 2/229 .
- (6) الوسائل : 21/509 ـ 513 ، أبواب النفقات ب1 .
- (7) جواهر الكلام : 31/302 .
(الصفحة 569)
وأنّ من خصوصيّات هذا النكاح عدم وجوب الإنفاق ، فراجع .
ثانيهما : أن لا تكون ناشزة بل مطيعة فيما تجب إطاعتها له من دون فرق بين المسلمة والذمّية ، ذكر المحقّق في الشرائع : وفي وجوب النفقة بالعقد أو بالتمكين تردّد ، أظهره بين الاصحاب وقوف الوجوب على التمكين(1) . ولا ريب أنّ مراده بالعقد هو العقد الدائم ، وبالتمكين هو التمكين الكامل الذي فسّره بالتخلية بينها وبينه ، بحيث لا تخصّ موضعاً ولا وقتاً أي ممّا يحلّ له الاستمتاع بهما ، ولكن ما ينبغي أن يلحظ في كلامه أنّه(قدس سره) جعل الشرط الثاني لوجوب إنفاق الزوج هو التمكين المفسّر بما ذكر ، ثمّ عقّبه بالعبارة المذكورة ، فإنّ الجمع بين كون التمكين مأخوذاً بنحو الشرطيّة أوّلا ، وبين الترديد في ذلك ، وأنّ الأظهريّة بين الأصحاب وقوف الوجوب على التمكين لا يكاد يستقيم .
نعم ، حكي عن المسالك أنّه قال في شرح تردّد المحقّق : ولا ريب في أنّ للنفقة تعلّقاً بالعقد والتمكين جميعاً ، فإنّها لا تجب قبل العقد ، وتسقط بالنشوز بعد ، واختلف في أنّها بم تجب؟ فقيل : بالعقد كالمهر ـ إلى أن قال : ـ وقيل : لا تجب بالعقد مجرّداً ، بل بالتمكين ، وذكر قبل ذلك ما يرجع إلى أنّ الأمر دائرٌ بين شرطيّة التمكين وبين مانعيّة النشوز ، وذكر في هذا المجال : أنّه إن جعلنا التمكين شرطاً فظاهر ، وإن جعلنا النشوز مانعاً كان ملحوظاً في تحقّق معناه ، فلذا بدأ ـ أي المحقق في الشرائع ـ به قبل تحقّق محل الخلاف(2) .
ولكنّ الذي أفاده صاحب الجواهر بعد التأمّل الجيّد في كلام الفاضلين(3) أنّه
- (1) شرائع الإسلام : 2/347 .
- (2) مسالك الأفهام : 8/440 ـ 441 .
- (3) شرائع الإسلام : 2/347 ، قواعد الأحكام : 2/52 .
(الصفحة 570)مسألة 2 : لو نشزت ثمّ عادت إلى الطاعة لم تستحقّ النفقة حتى تظهرها وعلم بها وانقضى زمان أمكن الوصول إليها1.
لا كلام في اعتبار التمكين الذي هو ضدّ النشوز ، ولا يتحقّق عدمه إلاّ به في وجوب الإنفاق ، ولذا فرّعوا عليه ما يقتضي النشوز ، وإنّما الكلام في اعتبار غيره فيه(1) .
أقول : التفريع بما يقتضي النشوز قرينة على أنّه ليس المراد بالتمكين إلا أمراً واحداً; لا أنّه له مرتبتان : أحدهما شد النشوز ، والأُخرى الزائدة على ذلك ، والأُولى مجمع على اعتبارها ، والثانية محلّ الكلام والخلاف ، فلا محيص إلاّ أن يُقال : بأنّ البحث في هذا المجال إنّما يرجع إلى شرطيّة التمكين أو مانعيّة النشوز ، ولا ينبغي الارتياب في الثاني ، كما ربّما يشعر بل يدلّ عليه المتن أيضاً ، فإنّه لو كان التمكين شرطاً يجب إحرازه في وجوب الإنفاق ، بخلاف ما إذا كان النشوز مانعاً ، فلو سافر الزوج بعد العقد بمجرّده شهراً ولم يرجع إلاّ بعده ، وشكّ في أنّها هل كانت متمكّنة من نفسها في الشهر الماضي لو لم يسافر أم كانت ناشزة ، فعلى تقدير الشرطيّة لا يجب الإنفاق بالإضافة إلى ذلك الشهر بخلاف المانعيّة .
وأمّا نكاح المسلمين وعدم إنفاقهم إلى الزفاف فإنّما هو لأجل عدم التمكين ، المساوق للنشوز لا لأجل اعتبار شيء آخر في وجوب الإنفاق زائداً على التمكين الذي هو ضدّ النشوز ، فتدبّر خصوصاً مع تشويش كلماتهم .1 ـ اعتبار إظهارها الطّاعة والعلم بها إن كان المراد به عدم الاكتفاء بالفعل ، بل لابدّ من لفظ يدلّ عليه من قبل المرأة، كأن تقول: سلّمت نفسي إليك حيث شئت أو
- (1) جواهر الكلام : 31/303 .
(الصفحة 571)مسألة 3 : لو ارتدّت سقطت النفقة ، وإن عادت في العدّة عادت1.مسألة 4 : الظاهر أنّه لا نفقة للزوجة الصغيرة غير القابلة للاستمتاع منها على زوجها ، خصوصاً إذا كان صغيراً غير قابل للتمتّع والتلذّذ ، وكذا للزوجة الكبيرة إذا كان زوجها صغيراً غير قابل لأن يستمتع منها . نعم لو كانت الزوجة مراهقة
أيّ زمان شئت ، كما استظهره في المسالك(1) من كلام المحقّق(2) وغيره(3) . فيرد عليه أنّه لا دليل عليه ، ولا يتوقّف صدق الطاعة والإنقياد ـ وكذا عروض نفسها عليه ـ كلّ غدوة وعشيّة عليه ، وإن كان المراد نفي صورة الشك فهو تامّ; لأقتضاء الاستصحاب البقاء على النشوز ، وأمّا إنقضاء زمان أمكن الوصول إليها ، فإن كان المراد مدخليّة انقضاء الزمان المذكور في ذلك فالظّاهر أنّه لا دليل عليه ، وإن كان المراد ارتفاع الشكّ في بقاء النشوز بذلك فهو حقّ لا ريب فيه .1 ـ أمّا سقوط النفقة مع ارتدادها فإنّما للخروج عن الزوجيّة بمجرّد الارتداد وحصول البينونة بينهما كذلك ، ومن المعلوم أنّه لا تجب نفقة غير الزوجة فيما كانت علّة وجوبها الزوجيّة وأمّا ، عود وجوب النفقة بعد عودها عن الارتداد في العدّة فبلحاظ أنّ توبة المرتدّة حيث تكون مقبولة ولو بحسب الظّاهر ، فإذا كانت هذه التوبة واقعة في العدّة ولم تخرج العدّة بعد تعود الزوجيّة الموجبة للإنفاق ، والمفروض في هذه المسألة عدم تحقّق النشوز .
- (1) مسالك الأفهام : 8/469 .
- (2) شرائع الإسلام : 2/350 .
- (3) المبسوط : 6/11 ، قواعد الأحكام : 2/52 .
(الصفحة 572)والزوج مراهقاً أو كبيراً أو كان الزوج مراهقاً والزوجة كبيرة لم يبعد استحقاقها لها مع تمكينها له من نفسها على ما يمكّنه من التلذّذ والاستمتاع منها1.
1 ـ الظاهر أنّ الوجه في عدم ثبوت النفقة للزوجة الصغيرة هو عدم التمكين الكامل ، الذي قد عرفت أنّه الشرط الثاني لوجوب إنفاق الزوج ، أو ثبوت النشوز الذي هو مانع عن ثبوت وجوب الإنفاق بلحاظ حرمة وطئها ما دام كونها صغيرة ، وفي محكيّ كشف اللثام : ولا يفيد تمكينها من الوطء وإن حرم ، أو كان الزوج صغيراً يمكنه الوطء ، ولا يحرم عليه ، فإنّه تمكين غير مقصود شرعاً ، والفرق بينها وبين الحائض أنّ الحائض أهل للاستمتاع بالذات ، وإنّما المانع أمر طار بخلافها ، وإنّها ليست أهلا للتمكين لصغرها ونقصها ، ولا عبرة بتسليم الوليّ; لأنّها ليست مالا الخ(1) .
وأورد عليه في الجواهر بمنع عدم صدق التمكين منها مع فرض بذل نفسها نحو الكبيرة ، وحرمة وطؤها لا مدخليّة لها في صدق اسم التمكين منها ، المتحقّق برفع المانع من جهتها(2) . فلا فرق حينئذ بين الصغيرة والحائض ، خصوصاً إذا كانت مراهقة وكان الزوج كبيراً أو مراهقاً .
نعم ، لو كانت كبيرة وزوجها صغيراً ، فالمحكي عن خلاف الشيخ أنّه لا نفقة لها(3) ولكن قال المحقّق في الشرائع : وفيه إشكال ، منشأه تحقّق التمكين من طرفها ، والأشبه وجوب الإنفاق(4) وأورد عليه في الجواهر بمنع تحقّق التمكين بدون التمكّن ،
- (1) كشف اللثام : 7/561 .
- (2) جواهر الكلام : 31/310 .
- (3) الخلاف : 5/113 .
- (4) شرائع الإسلام : 2/348 .