(الصفحة 486)
والهجر لا يكونان في عداد واحد; لأنّ الأولى ترجع إلى النهي عن المنكر ، والثانية تفويت لحقّها الواجب عليه شرعاً ، ولا يجوز قبل تحقّق الذنب ، إذ هو عقوبة أيضاً لا يجوز بدون فعل المحرّم ، والمحكيّ عن المحقّق في النافع(1) ترتّب الأمور الثلاثة على ظهور أمارات النشوز من غير فرق بين الضرب وغيره ، إلاّ أنّها مترتّبة على حسب مراتب النهي عن المنكر .
وأورد عليه في الجواهر بأنّه وإن وافق ظاهر الآية(2) بالنسبة إلى ثبوت الثلاثة على خوف النشوز ، لكنّه مناف لظاهرها بالنسبة إلى التخيير بين الثلاثة والجمع; لأنّ الواو لمطلق الجمع(3) . وحكي عن ابن الجنيد أنّه جعل الأمور الثلاثة مترتّبة على النشوز بالفعل ، ولم يذكر الحكم عند ظهور أماراته ، وجوّز الجمع بين الثلاثة ابتداء من غير تفضيل(4) . ويرد عليه أنّه مخالف لظاهر الآية ، حيث إنّه في مقام بيان الحكم عند ظهور أمارات النشوز .
والمحكيّ عن العلاّمة في التحرير(5) جعل الأمور الثلاثة مترتّبة على مراتب ثلاثة من حالها ، فمع ظهور أمارات النشوز يقتصر على الوعظ ، ومع تحقّقه قبل الإصرار ينتقل إلى الهجر ، فإن لم ينجع وأصرّت تنتقل إلى الضرب ، فيكون معنى الآية
{ وَالَّلاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} فإنّ نشزن فاهجروهنّ في المضاجع ، فإن أصررن فَاضربوهنّ .
- (1) المختصر النافع : 216 .
- (2) سورة النساء : 4/34 .
- (3) جواهر الكلام : 31/203 .
- (4) حكى عنه في مسالك الأفهام : 8/357 ـ 358 .
- (5) تحرير الأحكام : 2/42 .
(الصفحة 487)
والتحقيق في معنى الآية ـ بعد ملاحظة أنّ العِظة مفهوماً لا تكون عقوبة; لرجوعها إلى النهي عن المنكر والإرشاد إليه ـ أنّها تكون مترتّبة على خوف النشوز بظهور أماراته وعلائم الطغيان ، وأمّا الهجر والضرب فهما عقوبتان ، غاية الأمر أنّ الأوّل أخفّ من الثاني ، ولازم ذلك تحقّق النشوز المحرّم من الزوجة ، فاللاّزم حمل الأوّل على ما إذا أثّرت الهجرة وحمل الثاني على صورة الإصرار; لأنّ مقتضى أشدّيّة الثاني بالإضافة إلى الأوّل ذلك ، ويُناسب ذلك الإجماع المدّعى(1)على اعتبار نفس النشوز في الضرب لا مخافته ، كما تقدّم .
وقد عرفت أنّه لا فرق بين الضرب والهجر في ذلك ، فيصير المحصّل ما أفاده في المتن ، كما لا يخفى .
وينبغي التنبيه على أمور :
الأوّل : إنّ الأمور الثلاثة المذكورة في الآية لا تكون واجبة بل جائزة; لأنّ الأمر الوارد فيها واقع في مقام توهّم الخطر ، والأمر الكذائي لا دلالة له على الوجوب . نعم يمكن أن يُقال بوجوب الموعظة من باب وجوب النهي عن المنكر ، كالأمر بالمعروف ، لكن الوجوب بعد عدم تحقّق النشوز; لأنّ المفروض وقوع الخوف عنه محلّ إشكال ، كما لا يخفى .
الثاني : إنّ الرواية الواردة في الهجر ، الّتي أشار إليها المحقّق في عبارته المتقدّمة هي ما رواه في مجمع البيان عن أبي جعفر (عليه السلام) مرسلا ، من أنّه أن يحوّل ظهره إليها في الفراش(2) . وظاهرها وإن كان هو التعيّن إلاّ أنّ إطلاق الآية يشمل الثاني خصوصاً
- (1) المبسوط : 4/337 ، الخلاف : 4/415 ـ 416 .
- (2) مجمع البيان : 3/76 ذيل الآية 34 من سورة النساء .
(الصفحة 488)مسألة2: كمايكون النشوز من قبل الزوجة يكون من طرف الزوج أيضاً بتعديه عليها ، وعدم القيام بحقوقها الواجبة ، فإذا ظهر منه النشوز بمنع حقوقها من قسم ونفقةونحوهمافلهاالمطالبة بها ووعظها إيّاه ، فإن لم يؤثّر رفعت أمرها إلى الحاكم فيلزمه بها ، وليس لها هجره ولا ضربه ، وإذا اطّلع الحاكم على نشوزه وتعدّيه نهاه عن فعل ما يحرم عليه وأمره بفعل ما يجب ، فإن نفع وإلاّ عزّره بما يراه، وله أيضاً الإنفاق من ماله مع امتناعه من ذلك ولوببيع عقاره إذا توقّف عليه1.
مع إرسالها .
الثالث : إنّه يتدرّج في الضرب إلى الأقوى فالأقوى ، ولا ينتقل إلى الأقوى مع حصول الغرض بالأضعف ما لم يكن مدمياً ولا شديداً مؤثّراً في حصول اسوداد الوجه أو احمراره ، وقد أفاد صاحب الجواهر; أنّه ينبغي اتّقاء المواضع المخوفة كالوجه والخاصرة ومراق البطن ونحوه ، وأن لا يوالي الضرب على موضع واحد ، بل يفرّق على المواضع الصلبة(1) ولابدّ أن يكون الضرب بقصد الإصلاح لا التشفّي والإنتقام . كما أنّه في الهجر أيضاً يكون الأمر كذلك .
ولو حصل بالضرب تلف وجب الغرم لإطلاق أدلّته الّذي لا ينافيه الرخصة منه ، كالاتلاف غير المحرّم الّذي فيه الضمان مع أنّ المرخّص فيه غير المفروض من الضرب ، وأمّا ضرب الولّي الصبي لأجل التأديب فعلى تقدير عدم ثبوت الضمان فيه يمكن الفرق بينه وبين المقام ، بأنّ ضرب الزوج إنّما هو لمصلحة شخصه بخلافه في الولي الّذي هو محسن محض .1 ـ كما يتحقّق النشوز من قبل الزوجة وتتّصف بالناشزة الّتي قد عرفت
- (1) جواهر الكلام : 31/206 ـ 207 .
(الصفحة 489)مسألة 3 : لو ترك الزوج بعض حقوقها الغير الواجبة أو همّ بطلاقها لكراهته لها لكبر سنّها أو غيره ، أو همّ بالتزويج عليها فبذلت له مالا أو بعض حقوقها
حكمها ، كذلك يتحقّق من ناحية الزوج بعدم رعاية حقوقها الواجبة عليه من قسم ونفقة ونحوها ، وفي هذه الصّورة لها المطالبة بها ووعظها إيّاه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أثّر وإلاّ رفعت أمرها إلى الحاكم ، ولابدّ من إثباته عنده إمّا بإقامة البيّنة وإمّا بإقراره وإمّا بإطّلاع الحاكم وعلمه بهذه الجهة ، وليس لها هجره ولا ضربه كما في صورة العكس; لعدم الدّليل على أحد الأمرين ، فإذا ثبت عند الحاكم نشوزه وتعدّيه بحقّها فيجب عليه من ذلك الباب ـ أي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الأمر بفعل ما يجب عليه والنهي عن فعل ما يحرم عليه ، فإن نفع وتأثّر بذلك وإلاّ فلها تعزيره بما يراه الحاكم .
نعم ، في خصوص الإنفاق فلأجل توقّف الحياة عليه غالباً يجوز له مع امتناع الزوج أن ينفق من ماله ولو ببيع عقاره ، ثمّ الظاهر أنّ قوله تعالى في سورة النساء :
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً}(1) إلى آخر الآية إنّما يرتبط بالمسألة الآتية الّتي موضوعها عدم ترك الزوج حقوقها الواجبة عليه ، بل كراهته صحبتها لكبر أو غيره ، ولأجله اهتمّ بطلاقها ، كما سيأتي فيها الرّوايات الواردة في تفسير الآية إن شاء الله تعالى ، فلا يُتوهّم ارتباط الآية بهذه المسألة كآية
{ وَالّلاَتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}(2) المرتبطة بالمسألة السّابقة ، فتدبّر جيّداً .
- (1) سورة النساء : 4/128 .
- (2) سورة النساء : 4/34 .
(الصفحة 490)الواجبة من قسم أو نفقة استمالة له صحّ وحلّ له ذلك ، وأمّا لو ترك بعض حقوقها الواجبة أو آذاها بالضرب أو الشتم وغير ذلك ، فبذلت مالا أو تركت بعض حقوقها ليقوم بما ترك من حقّها أو ليمسك عن أذيّتها أو ليخلعها فتخلّص من يده حرم عليه ما بذلت ، وإن لم يكن من قصده إلجاؤها بالبذل على الأقوى1.
1 ـ الأصل في هذه المسألة هي الآية الّتي اُشير إليها في المسألة السابقة ، وهو قوله تعالى :
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}(1) الآية بضميمة النصوص المستفيضة الواردة في تفسيرها ، مثل :
صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ :
{وَإنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}؟ فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها : إنّي اُريد أن اُطلّقك ، فتقول له : لا تفعل إنّي أكره أن تشمت بي ، ولكن اُنظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ، ودعني على حالتي ، فهو قوله تعالى :
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} وهذا هو الصّلح(2) .
ورواية علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجل :
{وَإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}؟ قال : إذا كان كذلك فهمّ بطلاقها فقالت له : امسكني وأدع لك بعض ما عليك ، وأحلّلك من يومي وليلتي حلّ له
- (1) سورة النساء : 4/128 .
- (2) الكافي : 6/145 ح2 ، التهذيب : 8/103 ح348 ، تفسير العياشي : 1/279 ح284 ، الوسائل : 21/349 ، أبواب القسم والنشوز والشقاق ب11 ح1 .