(الصفحة 547)
والدّليل على عدم الوجوب في هذه الصورة ظاهر قوله تعالى :
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُوْرَهُنَّ}(1) فإنّه يظهر منه أنّ الإرضاع إنّما هو باختيارهنّ ، والقدر المسلّم إنّما هي هذه الصورة ، وقوله تعالى :
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(2) .
ورواية سليمان بن داود المنقري قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الرضاع؟ فقال : لا تُجبر الحرّة على رضاع الولد ، وتُجبر اُمّ الولد(3) .
الثانية : صورة الإنحصار وإمكان حفظ الولد بلبن ونحوه مع الأمن من الضرر عليه ، وفي هذه الصورة أيضاً لا يجب على الأُم الإرضاع لغرض إمكان حفظ الولد من غير لبن الأمّ ، ووجود الأمن من الضرر عليه ، وجريان أدلّة عدم الوجوب في الصورة الأولى في هذه الصورة أيضاً .
الثالثة : لو فُرض الإنحصار بها وتوقّف الأمن من الضرر على إرضاع الأُمّ ، لكن لا يجب عليها الإرضاع مجّاناً بل لها المطالبة بالاُجرة ، كما تدلّ عليه الآية والرواية المتقدّمتان ، غاية الأمر أنّ الاُجرة في مال الولد إن كان له مال ، وفي مال الأب مع يساره إن لم يكن له مال ، بل ربّما يُقال : بثبوت الأُجرة عليه ولو مع إعساره ، ولكنّه يدفعه أنّ الاُجرة من الإنفاق الذي لا يجب مع الإعسار ، كما أنّه ربّما يُقال : بثبوت الأُجرة على الأب ، وإن كان للولد مال يمكن أن يصرف في أُجرة الرضاع ، نظراً إلى إطلاق الآية المتقدّمة ، حيث إنّ المخاطب فيها الأب ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق في الوجوب عليه بين وجود المال للولد وعدمه ، كما يدلّ عليه قوله تعالى أيضاً :
- (1 ، 2) سورة الطلاق : 65/6 .
- (3) الكافي : 6/40 ح4 ، التهذيب : 8/107 ح 362 ، الفقيه : 3/83 ح 297 و ص 308 ح 1486 ، الوسائل : 21/452 ، أبواب أحكام الأولاد ب68 ح1 .
(الصفحة 548)
{وَعَلَى المَوْلُوْدِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}(1) .
نعم ، لو مات الأب وجب من مال الولد لمرسلة ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل توفّي وترك صبيّاً فاسترضع له ، قال : أجر رضاع الصبي ممّا يرث من أبيه وأُمّه(2) .
وفي رواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) الواردة في مورد الرواية المتقدّمة مثل ذلك إلاّ أنّه قال : ممّا يرث من أبيه وأنّه حظّه(3) .
وفي صحيحة عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل مات وترك إمرأة ومعها منه ولد ، فألقته على خادم لها فأرضعته ثمّ جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصيّ ، فقال : لها أجر مثلها وليس للوصيّ أن يخرجه من حجرها حتى يدرك ويدفع إليه ماله(4) .
والجواب أمّا عن الروايات فواضح; لأنّ المفروض فيها صورة عدم الأب ، والكلام إنّما هو مع وجوده ، وأمّا الآيتان فالمقصود منهما عدم وجوب الإرضاع مجّاناً ، وأمّا أنّ الأُجرة من مال من فلا دلالة فيهما عليه ، ويؤيّده أنّ الرضاع والإرضاع حقيقتهما النفقة والإنفاق ، ولا وجه للوجوب على الأب مع الإعسار ، وإن أبيت إلاّ عن إطلاق الآيتين ـ خصوصاً الثانية بلحاظ التعبير عن الولد بالمولود له ، الّذي فيه تنبيه حسن على كون الولد حقيقة له ، ولذا نسب إليه دون أُمّه ووجبت نفقته عليه ـ نقول بإنصرافهما عن صورة ثبوت المال للولد; لعدم حاجته
- (1) سورة البقرة : 2/233 .
- (2) الكافي : 6/41 ح5 ، التهذيب : 7/447 ح 1792 ، الوسائل : 21/456 ، أبواب أحكام الأولاد ب71 ح2 .
- (3) التهذيب : 8/106 ح359 ، الوسائل : 21/456 ، أبواب أحكام الأولاد ب71 ح3 .
- (4) الكافي : 6/41 ح7 ، التهذيب : 8/106 ح356 ، الوسائل : 21/456 ، أبواب أحكام الأولاد ب71 ح1 .
(الصفحة 549)مسألة 12 : الأُمّ أحقّ بإرضاع ولدها من غيرها إذا كانت متبرّعة أو تطلب ما تطلب غيرها أو أنقص ، وأمّا لو طلبت زيادة أو أجرة ووجدت متبرّعة فللأب تسليمه إلى غيرها ، والأحوط عدم سقوط حقّ الحضانة الثابت للأُم أيضاً; لعدم التنافي بين سقوط حقّ الإرضاع وثبوت حقّ الحضانة1.
إلى النفقة حينئذ ، فتدبّر جيّداً .
الرّابعة : ما إذا لم يكن للولد مال ولم يكن الأب أو الجدّ له موسرين ، ففي المتن يتعيّن على الاُمّ رضاعه مجّاناً أو باستيجار مرضعة أُخرى ، ولكنّ الوجوب في هذه الصورة إنّما هو لأجل حفظ النفس المحترمة الّذي لا فرق فيه بين الأُمّ وغيرها ، غاية الأمر إطّلاع الأُمّ على هذه الجهة دون غيرها غالباً ، والمقصود من العبارة الوجوب عليها من جهة كونها اُمّاً ، مع أنّه لا دليل على ذلك بوجه ، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا فرق في الأُمّ بين المطلّقة وغيرها ، ومن هنا ذكر المحقّق في الشرائع : وأمّا الرضاع فلا يجب على الاُمّ إرضاع الولد(1) . وهذه العبارة مطلقة شاملة لهذه الصورة .1 ـ الأصل في هذه المسألة مضافاً إلى قوله تعالى :
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}خصوصاً مع قوله تعالى بعد ذلك :
{لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}(2) هي صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة في المسألة السابقة ، حيث إنّها تدلّ على أنّه ليس للوصي أن يخرجه من حجرها ، وروايات أُخر مثل :
رواية فضل أبي العباس قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل أحقّ بولده أم
- (1) شرائع الإسلام : 2/345 .
- (2) سورة البقرة : 2/233 .
(الصفحة 550)
المرأة؟ قال : لا ، بل الرجل ، فإن قالت المرأة لزوجها الذي طلّقها أنا أرضع إبني بمثل ما تجد من يرضعه فهي أحقّ به(1) .
ورواية أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا طلّق الرجل المرأة وهي حُبلى أنفق عليها حتى تضع حملها ، وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يُضارّها إلاّ أن يجد من هو أرخص أجراً منها ، فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بإبنها حتّى تفطمه(2) .
وصحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الحُبلى المطلّقة يُنفق عليها حتى تضع حملها ، وهي أحقّ بولدها حتى ترضعه بما تقبله امرأة أُخرى ، إنّ الله يقول :
{لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}(3) (4) .
ورواية داود بن الحصين ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}(5) قال : ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسويّة ، فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأُم ، فإذا مات الأب فالأمّ أحقّ به من العصبة ، وإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم وقالت الأُمّ : لا أرضعه إلاّ بخمسة دراهم ، فإنّ له أن ينزعه منها إلاّ أنّ ذلك خير له وأرفق به أن يترك مع اُمّه(6) .
- (1) الكافي : 6/44 ح1 ، التهذيب : 8/105 ح353 ، الإستبصار : 3/320 ح1140 ، الوسائل : 21/471 ، أبواب أحكام الأولاد ب81 ح3 .
- (2) الكافي : 6/45 ح2 و ص 103 ح 2 ، التهذيب : 8/106 ح360 وص134 ح465 ، الإستبصار : 3/320 ح 1141 ، الوسائل : 21/471 ، أبواب أحكام الأولاد ب81 ح2 .
- (3) سورة البقرة : 2/233 .
- (4) الكافي : 6/103 ح3 ، الوسائل : 21/472 ، أبواب أحكام الأولاد ب81 ح5 .
- (5) سورة البقرة 2/233 .
- (6) الكافي : 6/45 ح4 ، التهذيب : 8/104 ح352 ، الإستبصار : 3/320 ح1138 ، تفسير العياشي : 1/120 ح380 ، الفقيه : 3/274 ح 1302 ، الوسائل : 21/470 ، أبواب أحكام الأولاد ب81 ح1 .
(الصفحة 551)
إلى غير ذلك من الروايات الدّالّة على أحقيّة الأُم إذا لم تطلب الزيادة على ما تطلب غيرها ، مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه نقلا وتحصيلا ، بل الإجماع كذلك كما في الجواهر(1) . وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو تبرّعت أجنبيّة بإرضاعه ولم ترضَ الأُمّ بذلك فللأب تسليمه إلى المتبرّعة للرضاع ، وسيأتي(2) عدم سقوط حقّ الحضانة بذلك; لأنّه هناك حقّان ، ولا وجه لسقوط حقّ الحضانة بسبب حقّ الإرضاع ، إنّما الكلام فيما لو عصت به ولم تسلّمه إلى الأب مع وجود المرضعة بالأقلّ ، فهل يسقط حقّها أصلا لأنّها تكون حينئذ كالأجنبيّة المتبرّعة غير المأمورة بالإرضاع ، أو يسقط بالنسبة إلى ما طلبته من الزيادة؟
ظاهر فتاوى الأصحاب ونصوص الباب هو الأوّل; لعدم الإذن في رضاعها إيّاه شرعاً ، ولكنّه يحتمل الثاني ، ويمكن تنزيل الأدلّة والفتاوى عليه كما لا يخفى ، وذكر المحقّق في هذا المجال عبارة ، وهي أنّه لأمّه أن ترضعه بنفسها وبغيرها ولها الأُجرة(3) .
وقال صاحب الجواهر بعد إيراد الصحيحة : وحينئذ يكون ذلك حكماً شرعيّاً ، وهو استحقاق الأُمّ اُجرة الرضاع وإن لم تقع معاملة بينها وبين الأب ، سواء أرضعته بنفسها أو عند غيرها . ثمّ حكى عن المسالك : أنّه حمل العبارة على معنى آخر ، يرجع إلى أنّه لو كانت الإجازة مطلقة غير مقيّدة بإرضاع الأُم بنفسها فهي مسألة الكتاب ، المشهور حينئذ جواز إرضاعها له بنفسها وغيرها . وقيل :
- (1) جواهر الكلام : 31/280 .
- (2) في ص555 ـ 558 .
- (3) شرائع الإسلام : 2/345 .