(الصفحة 176)
الاحكام فكما ان المرجع في تشخيص الدم في قوله كل دم نجس هو العرف و لا يعتد
بالبرهان العقلى القائم على ان اللون الضعيف الباقى في الثوب بعد غسله كاملا هو
الدم لعدم كونه عند العرف كذلك، كذلك الاستطاعة الواقعة في الآية فان الحاكم في
تشخيصها هو العرف و من الواضح حكم العرف بثبوت القدرة عند البذل خصوصا إذا قيل
له حج بهذا المال و كان كافيا للحج و لنفقة عياله فالاية بنفسها تدل على الوجوب
بالبذل كما لا يخفى.
و اما من الجهة الثانية فقد سبق انه قد ورد
في تفسير الآية طائفتان من الروايات احديهما ما تكون ظاهرة في ان الاستطاعة
عبارة عن ملكية الزاد و الراحلة لظهور اللام في قوله: له زاد و راحلة في
الملكية.
ثانيتهما ما تكون ظاهرة في الاعم من الملكية و الاباحة مثل قوله ـ عنده ما يحج
او يجد ما يحج به او قدر الرجل على ما يحج به و مثله من التعبيرات.
و مر ايضا ان بعض الاعلام حكم بانه لا موجب لحمل المطلق على المقيد و تقييد
اطلاق ما يحج به بالملكية لعدم التنافى بين حصول الاستطاعة بالملكية و حصولها
بالاباحة و البذل و انما يحمل المطلق على المقيد فيما إذا كان بينهما التنافى
كما إذا ورد في متعلقات الاحكام بعد احراز وحدة المطلوب و تقدم ايضا الجواب عنه
بان ورود الطائفتين في تفسير الاية الشريفة و تبيين المراد من الاستطاعة
الواردة فيها يوجب تحقق المنافات بينهما و بعبارة اخرى بعد كون الطائفتين
واردتين لا في مقام بيان المصداق للاستطاعة بل فى مقام بيان مفهومها الواقع في
الآية لا مجال للحكم بعدم تحقق المنافاة بينهما اصلا.
كما انه قد تقدم ايضا ان الجمع بين الطائفتين يمكن بان تجعل الطائفة الثانية
قرينة على عدم كون المراد من اللام في الطائفة الاولى هى الملكية و ان كانت
ظاهرة فيها في نفسها و ان هذا الجمع هو الجمع المقبول عند العرف و العقلاء.
(الصفحة 177)
و يؤيده في المقام صحيحة العلاء على ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد قال سئلت
ابا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه ـ عز و جل ـ و للّه على الناس حج
البيت من استطاع اليه سبيلا قال يكون له ما يحج به قلت فمن عرض عليه فاستحيى؟
قال هو ممن يستطيع.(1) فان تفسير الاستطاعة بقوله له ما يحج به ثم
الحكم بان من عرض عليه الحج مستطيع ظاهر فى عدم كون المراد من اللام هى الملكية
و الا لم يكن مصداقا للمستطيع الواقع في الاية المفسر في صدر الرواية.
الاّ ان يقال بان ظهور اللام في الملكية محفوظ و هو قرينة على ان المراد من
الذيل هو كون العرض و البذل بنحو الملكية و لكن الظاهر هو الاول و لعله يجىء
الكلام على هذه الجهة في البحث في انه هل يختص البذل الموجب للحج بما إذا كان
على نحو التمليك او يعم صورة الاباحة ايضا.
و قد انقدح مما ذكرنا ان الاية مع ملاحظة الروايات المفسرة ايضا ظاهرة في
الوجوب بالبذل و لو لم يكن على نحو التمليك.
و اما من الجهة الثالثة فالعمدة في مقام
الاستدلال خصوص صحيحة العلاء المروية فى كتاب التوحيد المتقدمة في الجهة
الثانية لانها تامة من حيث السند و الدلالة اما من الجهة الاولى فلكونها صحيحة
و اما من جهة الدلالة فلظهورها في كون من عرض عليه الحج من مصاديق المستطيع
الواقع في الاية المفسر في صدر الرواية بمن يكون له ما يحج به و من الواضح عدم
الشمول لما يكون عرض الحج بنحو يوجب وقوعه في الحرج و المشقة و الضيق بل بنحو
تكون الاستطاعة الملكية موجبة للحج لعدم الفرق بين الاستطاعتين من هذه الجهة و
كون العنوان الجامع هو له ما يحج به فدلالة الرواية خالية عن المناقشة نعم هنا
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب الثامن ح ـ 2
(الصفحة 178)
بعض الروايات التى استدل بها ايضا و لكنها غير واضحة مثل صحيحة محمد بن المسلم
في حديث قال قلت لابى جعفر (عليه السلام) فان عرض عليه الحج فاستحيى قال هو ممن
يستطيع الحج و لم يستحيى و لو على حمار اجدع ابتر قال فان كان يستطيع ان يمشى
بعضا و يركب بعضا فليفعل(1) فانه يحتمل فيها امران:
احدهما: ان يكون بصدد التوبيخ على الاستحياء
في جميع فروض عرض الحج و لو على حمار اجدع ابتر و مقتضاها ـ حينئذ ـ كون
الاستطاعة البذلية اوسع من الاستطاعة الملكية لاختصاص الثانية بصورة عدم الحرج
و كونها موافقة للشؤون و الشرف و شمول الاستطاعة البذلية لمثل عرض الحج و لو
على حمار اجدع ابتر و من الواضح استلزامه للحرج و مخالفة الشأن في كثير من
الموارد.
ثانيهما: ان يكون بصدد التوبيخ على
الاستحياء فيما يوجب عرض الحج لزومه و وجوبه و هو فيما إذا كان غير حرجى و
موافقا لشأنه و شرفه و انه إذا ترك الحج في هذه الصورة لمجرد الاستحياء يجب
عليه الحج بعده و لو على حمار اجدع ابتر و مقتضاها ـ حينئذ ـ لزوم الحج عليه و
لو بنحو التسكع كما في الاستطاعة الملكية إذا ترك الحج فزالت الاستطاعة فانه
يجب عليه الحج متسكعا و يجرى هذان الاحتمالان في قوله فان كان يستطيع ان
يمشى...ايضا و اما احتمال ان يكون التوبيخ على الاستحياء حكما اخلاقيا لا فقهيا
ففى غاية البعد و لا ينبغى الاعتناء به اصلا.
و يؤيد الاحتمال الاول رواية ابى بصير قال سمعت ابا عبد اللّه (عليه السلام)
يقول من عرض عليه الحج و لو على حمار اجدع مقطوع الذنب فابى فهو مستطيع للحج(2)
و يؤيد الاحتمال الثانى رواية معاوية بن عمار عن ابى عبد اللّه (عليه السلام)
في حديث قال فان كان دعاه قوم ان يحجوه فاستحيى فلم يفعل فانه لا يسعه الا ان
يخرج و لو
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب العاشر ح ـ 1
-
2 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب العاشر ح ـ 7
(الصفحة 179)
على حمار اجدع ابتر.(1)
هذا و لكنك عرفت ان صحيحة العلاء كافية في اثبات الحكم مضافا الى كونها موافقة
للفتوى و لا حاجة الى الروايات الاخر التى تجرى فيها المناقشة و دعوى انه لا
مانع من قيام الدليل على ثبوت حكم حرجى في مورد خاص كما قام على وجوب الحج بنحو
التسكع مع ترك الحج في مورد الاستطاعة الملكية و زوالها مدفوعة ـ مضافا الى
كونها مخالفة للفتوى في المقام لعدم ذهاب احد الى الوجوب في مورد عرض الحج إذا
كان على حمار اجدع ابتر ـ بان الوجوب في مورد التسكع ناش عن المكلف نفسه
باعتبار ترك الحج و عصيان وجوبه مع وجود جميع الشرائط و في المقام لا مدخلية
لارادة المكلف فيه اصلا كما لا يخفى.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم انه يقع الكلام بعد الفراغ عن اصل الحكم و ثبوته في
الجملة في جهات:
الجهة الاولى في انه هل يختص الحكم بوجوب
الحج بسبب الاستطاعة البذلية بما إذا كان البذل بنحو التمليك او يعم ما إذا كان
بنحو الاباحة ايضا نسب الاول الى الحلى في السرائر فانه بعد الحكم بانه يعتبر
في البذل نفقة العائلة ايضا و انه مع عدم بذل النفقة يصح فيمن لا تجب عليه نفقة
غيره قال: بشرط ان يملكه ما يبذله و يعرض عليه لا وعد بالقول دون الفعال.و
ظاهره بملاحظة التعبير بالتمليك هو اعتبار كون البذل بهذا النحو و لكن عطف قوله
و يعرض عليه و نفى الوعد بالقول دون الفعال يظهر منه انه ليس مراده التمليك فى
مقابل الاباحة بل البذل العملى الموجب للوثوق في مقابل القول الخالى عن الوثوق
نوعا ففى الحقيقة يرجع كلامه الى اعتبار الوثوق و سيجىء البحث فيه انشاء اللّه
تعالى.
و كيف كان فيمكن ان يستدل لهذا القول و ان لم يكن الحلّى قائلا به بصحيحة
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب العاشر ح ـ 3
(الصفحة 180)
العلاء بن رزين المتقدمة التى هى الاصل في الحكم من جهة الرواية نظرا الى
الجوابين المذكورين فيها فان الجواب عن سؤال المراد من الاستطاعة بقوله: له ما
يحج به إذا انضم الى الجواب عن سؤال من عرض عليه الحج بقوله هو ممن يستطيع يظهر
منه ان المراد من عرض الحج هو العرض بنحو التمليك لظهور اللام في الملكية.
و لكن قد عرفت ان الجمع بين الجوابين يقتضى ان يجعل الجواب الثانى قرينة على
عدم كون المراد من اللام الملكية خصوصا مع ظهور كثير من الروايات الواردة في
عرض الحج هو كون العرض بنحو الاباحة و لذا ربما يقال بان القدر المتيقن من
الاخبار الواردة فى هذا المجال هو كون العرض بنحو الاباحة فدعوى الاختصاص
بالبذل بنحو التمليك واضحة البطلان.
ثم انهم بعد الحكم بوجوب الحج بالاستطاعة البذلية الشاملة للبذل التمليكى قطعا
تعرضوا لمسئلة اخرى و هى ما إذا وهبه ما يكفيه للحج و حكموا فيها بعدم وجوب
القبول بنحو الاطلاق كما عن الشرايع او بالتفصيل بين ما إذا وهبه لان يحج او
وهبه و خيره بين ان يحج به او لا و بين ما إذا وهبه و لم يذكر الحج اصلا بالحكم
بوجوب القبول في الاولين دون الاخير او بوجوب القبول في خصوص الصورة الاولى و
كيف كان فمسئلة الهبة اختلافية مع ان مسئلة البذل وفاقية و ـ ح ـ يقع الكلام في
الفرق بين الهبة المفيدة للمكلية التى لا يجب قبولها مطلقا او في الجملة و بين
البذل التمليكى الذى يظهر منهم الاتفاق على وجوب القبول فيه و المستفاد من بعض
الكلمات ان الفرق هو كون البذل من الايقاعات و لا يعتبر فيه القبول و الهبة من
العقود المفتقرة الى القبول و لكن يرد عليه ان البذل التمليكى الايقاعى مما لا
نجد له في الفقه عينا و لا اثرا فان البذل بنحو الاباحة كما في اطعام الضيف و
غيره شايع و اما البذل بنحو التمليك فمما لم يعرف بوجه و سيجىء التحقيق في
مسئلة الهبة الآتية انشاء اللّه تعالى.
الجهة الثانية في انه هل يختص الحكم المذكور
بما إذا كان هناك بذل عين