(الصفحة 8)
و اما قوله تعالى في الذيل:
«و من كفر فان اللّه
غنى عن العالمين» فيحتمل فيه وجوه:
الاول: ان يكون المراد هو الكفر المتحقق
بالترك و المسبب عنه و هو الذى يظهر من بعض الروايات الاتية و اختاره صاحب
الجواهر (قدس سره) و عليه فهل المراد هو تحقق الكفر بالترك حقيقة او ان المراد
اهمية شأن الترك بحيث يمكن ان يطلق عليه الكفر و لو بالعناية و المسامحة و قد
ذكرنا في اول بحث الصلوة من هذا الكتاب انه يستفاد من القرآن ان ترك الصلوة
موجب للكفر الذى يتعقبه وجوب القتل و هو قوله تعالى
(فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و
اقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا و اقاموا الصلوة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان
اللّه غفور رحيم)(1). نظرا الى ان مقتضى اطلاق الصدر وجوب
قتلهم في جميع الحالات و مع كل الخصوصيات و قد خرج منه في الذيل صورة واحدة
فالصور الباقية داخلة تحت اطلاق الصدر فالاية تدل باطلاقها على وجوب قتل
المشركين في غير تلك الصورة و من مصاديقه التوبة و الخروج عن الشرك و عدم اقامة
الصلوة كما لا يخفى
الثانى: ان يكون المراد هو الكفر المسبب عن
انكار وجوب الحج و كونه فرضا و قد حكاه في مجمع البيان عن ابن عباس و الحسن.
الثالث: ان يكون المراد بالكفر هو الكفران
في مقابل الشكر لا الكفر المقابل للاسلام و الايمان نظير قوله تعالى:
(انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا)(2).
نظرا الى ان التكاليف الالهية المتوجهة الى العباد كلها نعم انعمها اللّه على
العباد و تفضلها عليهم لان المصالح و المفاسد كلها راجعة الى العباد و لا حقة
بهم و عليه فكل تكليف نعمة كما ان اصل الهداية المذكور في الاية لطف و نعمة، و
شكر كل تكليف هو العمل على طبقه و الاتيان بمتعلقه كما ان كفرانه هو المخالفة و
الترك و عليه فيحتمل
- 1 ـ سورة التوبة آية 5
- 2 ـ سورة الانسان آية 3
(الصفحة 9)
فى آية الحج ان يكون المراد بالكفر فيها هو الكفران الحاصل بالترك و يظهر هذا
الاحتمال من مجمع البيان ايضا.
الرابع: ما افاده بعض الاعلام في شرح العروة
ـ على ما في تقريرات بحثه ـ مما هذا الفظه: «ان الظاهر من قوله تعالى: و من
كفران من كفر باسبابه و كان كفره منشأ لترك الحج فان اللّه غنى عن العالمين لا
ان انكار الحج يوجب الكفر فان الذى يكفر يترك الحج طبعا لانه لا يعتقد به و
نظير ذلك قوله تعالى:
(ما سلككم في سقر قالوا لم نك
من المصلين و لم نك نطعم المسكين و كنا نخوض مع الخائضين و كنا نكذب بيوم
الدين)(1) فان عدم صلوتهم و عدم اتيانهم الزكوة لاجل كفرهم و
تكذيبهم يوم القيامة و لا تدل الايات على ان ترك الصلوة موجب للكفر بل الكفر و
تكذيب يوم القيامة منشأ لترك الصلوة و عدم اداء الزكوة فلا تدل الاية على ان
منكر الحج كافر».
و يرد عليه ان تفسير الكفر بالكفر المتحقق
باسبابه و جعله مقدما للجزاء الذى قام مقامه قوله فان اللّه غنى عن العالمين
يوجب عدم الارتباط بمسئلة الحج و وجوبه اصلا مع ان ظهور الاية في الارتباط مما
لا مجال لانكاره فلا محيص من جعل الكفر باىّ معنى كان مرتبطا بالحج ـ تركا او
انكارا ـ فاذا حمل على الكفر الاصطلاحى فلا بد من ان يكون سببه اما الترك و اما
الانكار.
و اما التنظير بقوله تعالى: ما سلككم في سقر الى اخر الاية فعجيب فان هذه الاية
لا تكون في مقام بيان الكفر و تطبيق عنوان الكافر بل في مقام السبب الموجب
للسلوك في النار و هما امران احدهما التكذيب بيوم الدين الذى يكون موجبا للكفر
و الثانى ترك الصلوة و الزكوة و قد ثبت في محله ان الكفار مكلفون و معاقبون على
الفروع كالاصول و هذه قاعدة فقهية مذكورة في محلها و من جملة ادلتها هذه الاية
فلا ارتباط لها بالمقام الذى لا بد ـ كما عرفت ـ من الارتباط بين صدر الاية و
ذيلها
-
1 ـ سورة المدثر آية 42 ـ 46
(الصفحة 10)
و تحقق المناسبة بين الكفر و الحج كما لا يخفى فهذا الاحتمال في كمال الضعف ثم
ان هذه الاحتمالات مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسير الاية و اما مع
ملاحظتها فنقول:
منها: صحيحة معوية بن عمار عن ابى عبد اللّه
(عليه السلام) قال: قال اللّه: و للّه على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا
قال هذه لمن كان عنده مال (الى ان قال) و عن قول اللّه عز و جل و من كفر يعنى
من ترك.(1) و قد وقع فيها تفسير الكفر بالترك يعنى ان المراد من
الكفر هو الترك و حيث انه لا محيص عن وجود المناسبة بين الامرين و الا لا
ارتباط بينهما بوجه لا بد اما من القول بان المناسبة هى السببية و المسببية
بمعنى ان ترك الحج سبب للكفر و قد استعمل اللفظ الموضوع للمسبب في السبب و عليه
فيكون المراد بالكفر هو الكفر الاصطلاحى المقابل للايمان و اما من القول بان
المراد بالكفر هو الكفر بالمعنى اللغوى الذى هو عبارة عن الستر و الاخفاء و قد
وقع الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب في مثل قوله تعالى:
(اعجب الكفار نباته) فان المراد بالكفار هو
الزراع لاجل انهم يسترون الحبة في بطن الارض و يخفونها فيها و في المقام يكون
ترك الحج و عدم الاتيان به سترا له و اخفاء كما لا يخفى.
و منها: ما رواه الصدوق باسناده عن حماد بن
عمرو و انس بن محمد عن ابيه جميعا عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليه السلام) في
وصية النبى (صلى الله عليه وآله) لعلى (عليه السلام) قال يا على كفر باللّه
العظيم من هذه الامة عشرة: القتات و الساحر و الديوث و ناكح المرئة حراما في
دبرها، و ناكح البهيمة، و من نكح ذات محرم، و الساعى في الفتنة، و بايع السلاح
من اهل الحرب، و مانع الزكوة، و من وجد سعة فمات و لم يحج يا علىّ تارك الحج و
هو مستطيع كافر يقول اللّه تبارك و تعالى و للّه على الناس حج البيت من استطاع
اليه سبيلا و من كفر فان اللّه غنى عن العالمين يا على من سوف الحج حتى يموت
بعثه اللّه
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب السابع ح ـ 2
(الصفحة 11)
يوم القيامة يهوديا او نصرانيا.(1) و ظاهرها ان مجرد الترك في تمام
العمر يوجب تحقق الكفر و لا محالة يكون حين الموت كافرا و لكن حيث لا تكون
الطوائف التسعة الاخرى محكومة بالكفر الاصطلاحى الموجب لترتب آثار الكفر من
النجاسة و غيرها فلا محالة لا يكون المراد من الكفر المسبب عن ترك الحج ايضا
ذلك و يؤيده انه على هذا التقدير كان اللازم ان يقال مات يهوديا او نصرانيا لا
انه يبعثه اللّه يوم القيامة كذلك و عليه فهو حين الموت لا يكون كافرا حتى
يترتب عليه ما يترتب على الميت الكافر من الاحكام.
و منها: ما رواه الكلينى بسندين احدهما صحيح
عن على بن جعفر عن اخيه موسى (عليه السلام) قال ان اللّه عز و جل فرض الحج على
اهل الجدة في كل عام و ذلك قوله عز و جل و للّه على الناس حج البيت من استطاع
اليه سبيلا و من كفر فان اللّه غنى عن العالمين قال قلت فمن لم يحج منا فقد
كفر؟ قال: لا و لكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر.(2)
و في معنى ذيل الرواية احتمالان:
احدهما ان يكون المراد ان من قال ليس الحج
هكذا اى بواجب و في الحقيقة انكر وجوب الحج فقد كفر.
ثانيهما ما افاده بعض الاعلام من ان الظاهر
من ذلك رجوعه الى انكار القرآن و ان هذه الاية ليست من القرآن و ان القرآن ليس
هكذا فانه (عليه السلام) استشهد اولا بقول اللّه ـ عز و جل ـ و للّه على الناس
حج البيت ثم سئل السائل فمن لم يحج منا فقد كفر قال (عليه السلام) لا و لكن من
قال ليس هذا هكذا فقد كفر فالانكار راجع الى انكار القرآن و تكذيب النبى (صلى
الله عليه وآله).
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب السابع ح ـ 3
-
2 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب الثانى ح ـ 1
(الصفحة 12)
و يرد عليه منع ظهور الرواية في ذلك جدا فانه لم يكن البحث في انكار القرآن
بوجه و الاستشهاد بالاية لا يدل على كون المراد ذلك بل حيث ان الآية كانت ظاهرة
في تحقق الكفر بمجرد ترك الحج و كان ذلك موجبا لتعجب السائل سئل عن المراد منها
و لا معنى لكون المراد من الكفر هو الكفر بالآية بعد عدم تمامية الآية بعد نعم
حيث يكون وجوب الحج مدلولا عليه بصدر الآية و لادخالة للذيل فيه فلا مانع من
فرض الكفر بالوجوب في القضية الشرطية المذكورة في الذيل و اما مع عدم تمامية
الآية فلا مجال لفرض الانكار في نفسها بعد عدم تماميتها كما لا يخفى.
ثم ان مقتضى الجمع بين هذه الصحيحة و الصحيحة الاولى ان يقال بان هذه الصحيحة
تصير قرينة على امرين احدهما ان المراد من الكفر المفسر بالترك في الاولى ليس
هو الكفر اللغوى الذى كان احد الاحتمالين فيها و ثانيهما ان المراد من الترك
فيها ليس مجرد الترك و مطلقه بل الترك عن انكار و اعتقاد بعدم الوجوب فيصير
معنى الآية بلحاظ الروايات الواردة في تفسيرها هو الكفر المسبب عن الانكار و
ينطبق على تفسير ابن عباس و بعض آخر فتدبر.
الامر الثانى من الامور الثلاثة المذكورة في
المتن ان مجرد ترك الحج من المعاصى الكبيرة و يدل عليه ـ مضافا الى ما عرفت من
اهمية فريضة الحج و عظم شأنه ـ انه قد عد فى الروايات الواردة في بيان المعاصى
الكبيرة و تعدادها الاستخفاف بالحج منها و المراد من الاستخفاف ان كان هو الترك
فينطبق على المقام و ان كان هو الاتيان عن استخفاف سواء كان لاجل التأخير عن
عام الاستطاعة او لاجل عدم الاعتناء بشأنه كما هو و ان اتى به فى عام الاستطاعة
فدلالته على المقام انما هى بالاولوية هذا مضافا الى انطباق الضابطة الكلية في
المعصية الكبيرة عليه و هى ايعاد اللّه تبارك و تعالى عليها النار او العذاب
صريحا او ضمنيا او باللزوم و لذا عد السيد الطباطبائى بحر العلوم ترك الحج منها
مستندا الى قوله تعالى:
و من كفر فان اللّه غنى عن
العالمين