(الصفحة 449)
مما إذا كان هناك نذران احدهما تعلق بالحج من غير تقييد بمكان ثانيهما تعلق
بكون الحج المنذور بالنذر الاول من مكان معين فخالف فحج من غير ذلك المكان.
و لا يخفى اختلاف هذا الفرع مع الفرعين الاولين فانه حيث كان متعلق اصل النذر
في ما في المتن و كذا متعلق النذر الثانى في مثال العروة هى الخصوصية المكانية
لا اصل الحج لانه كان واجبا باصل الشرع كما في حجة الاسلام او بالنذر الاول كما
في النذرين فلا بد من فرض الكلام فيما إذا كانت الخصوصية راجحة و الا لا ينعقد
النذر و عليه فالمثال لهذا الفرع ما إذا نذر الحج من مسجد الشجرة ـ مثلا ـ الذى
هو افضل المواقيت و مثله من الخصوصيات الراجحة و البحث في هذا الفرع تارة في
حكم الحج المأتى به من غير ذلك المكان الذى عينه و اخرى في وجوب الكفارة و
عدمه: اما البحث من الجهة الاولى فقد ناقش في صحته في «المستمسك» حيث قال: «و
ان اخذ ـ يعنى حجة الاسلام ـ قيدا للمنذور ـ كما هو ظاهر الفرض وجب تحصيله
فيرجع قوله: للّه علىّ ان احج حجة الاسلام من بلد كذا، الى قوله: للّه علىّ ان
لا احج الا من بلد كذا، لان وجوب المحافظة على حصول قيد المنذور يقتضى المنع من
حصوله لئلا يعجز عن اداء المنذور المؤدى الى تركه، فاذا حج من غير البلد المعين
حج الاسلام فقد فوت الموضوع و عجّز نفسه عن اداء المنذور، و هذا التعبير حرام
عقلا فيكون تجريا فلا يصح التعبد به فاذا بطل لفوات التقرب بقى النذر بحاله
فيجب الاتيان بالمنذور بعد ذلك و ـ حينئذ ـ لا تجب الكفارة لان الكفارة انما
تجب بترك المنذور، لا بمجرد التجرى في تركه و تفويته الحاصل بالاقدام على افراغ
الذمة عن حجة الاسلام.
و اورد عليه بعض الاعلام ايرادات:
منها: ان النذر انما يتعلق بايقاع الطبيعة
في ضمن فرد خاص و اما عدم ايقاعها في ضمن فرد آخر فهو من باب الملازمة بين وجود
احد الضدين و عدم الضد الاخر لا من جهة تعلق النذر بذلك و الا لا ينعقد النذر
من اصله لان ترك الحج من غير بلد
(الصفحة 450)
كذا لا رجحان فيه.
و بعبارة آخرى منّى ان عدم الحج من غير بلد كذا يجتمع مع ترك الحج رأسا فاذا
رجعت عبارة النذر الى ما ذكر يصير معناه حصر ايقاع حجة الاسلام في بلد كذا و
عدم تحققه من غيره و هذا لا ينافى الترك رأسا و من المعلوم انه لا رجحان فيه
اصلا فالارجاع المذكور مما لا وجه له اصلا.
و منها: ان التعجيز و تفويت الموضوع لا
ينطبق على نفس الحج من غير البلد المعين بل هو ملازم له لما ذكر من الملازمة
بين وجود احد الضدين و عدم الضد الآخر الناشية عن عدم امكان الجمع بين الضدين
في الوجود.
و عليه فاذا كان التعجيز مبغوضا و حراما فذلك لا يستلزم كون العبادة مبغوضة حتى
تصير فاسدة فان حكم احد المتلازمين لا يسرى الى الآخر فلا مجال لدعوى كون الحج
من غير البلد المعين مبغوضا و فاسدا.
و منها: ان التعجيز لا يعقل ان يكون محكوما
بالحرمة لانه يستلزم من وجوده عدمه و ذلك لان التعجيز انما يتحقق إذا كان
المأتى به صحيحا اذ لو كان باطلا و فاسدا لا يتحقق التعجيز فالتعجيز متوقف على
صحة المأتى به و إذا كان صحيحا لا يمكن ان يكون المعجز محرما بعنوان التعجيز
لاستحالة ما يلزم من وجوده عدمه.
هذا و يرد عليه ايضا ان الذوق الفقهى لا يقبل الحكم ببطلان حجة الاسلام التى هى
من اهم الفرائض الالهية و اللازم الاتيان بها فورا ففورا بمجرد مخالفة النذر
المتعلق بايقاعها من بلد معين او من مسجد الشجرة على ما مثلنا فالانصاف في هذه
الجهة الحكم بالصحة.
و اما البحث من الجهة الثانية فالظاهر لزوم الكفارة لان وقوع حجة الاسلام من
غير ذلك البلد صحيحا يوجب عدم التمكن من ايقاعها من ذلك البلد و المفروض وقوع
ذلك عمدا فاللازم عليه كفارة مخالفة النذر كما في المتن.
الفرع الرابع: ما لو نذر ان يحج في سنة
معينة و لا اشكال في صحة نذره
(الصفحة 451)
و انعقاده لكون متعلق النذر هو الحج و ان كان قد قيده بسنة معينة لكن قد عرفت
انه لا بد من مقايسة ذلك مع الترك لا مع الوجود مع فقدان الخصوصية الزمانية
فاصل صحة النذر مما لا شبهة فيه كما ان مقتضى وجوب الوفاء بالنذر عدم جواز
التأخير و ثبوت العصيان مع التأخير و ثبوت التمكن من الاتيان كما انه لا اشكال
في ثبوت الكفارة لتحقق المخالفة العمدية الموجبة لثبوتها.
انما البحث في لزوم القضاء و عدمه فنقول اما من جهة الفتاوى ففى الجواهر: «بلا
خلاف اجده فيه بل هو مقطوع به في كلام الاصحاب كما اعترف به في المدارك» و اما
من جهة الدليل فقد ذكر السيد (قدس سره) في العروة ما هذه عبارته: «التحقيق ان
جميع الواجبات الالهية ديون للّه تعالى سواء كانت مالا او عملا ماليا او عملا
غير مالى فالصلوة و الصوم ايضا ديون للّه و لهما جهة وضع فذمة المكلف مشغولة
بهما و لذا يجب قضائهما فان القاضى يفرغ ذمة نفسه او ذمة الميت، و ليس القضاء
من باب التوبة او من باب الكفارة بل هو اتيان لما كانت الذمة مشغولة به و لا
فرق بين كون الاشتغال بالمال او بالعمل فان مثل قوله: للّه علىّ ان اعطى زيدا
درهما دين الهى لا خلقى فلا يكون الناذر مديونا لزيد بل هو مديون للّه بدفع
الدرهم لزيد و لا فرق بينه و بين ان يقول للّه علىّ ان احج، او ان اصلى ركعتين
فالكل دين اللّه و دين اللّه احق ان يقضى كما في بعض الاخبار و لازم هذا كون
الجميع من الاصل نعم إذا كان الوجوب على وجه لا يقبل بقاء شغل الذمة به بعد
فوته لا يجب قضائه لا بالنسبة الى نفس من وجب عليه و لا بعد موته سواء كان مالا
او عملا مثل وجوب اعطاء الطعام لمن يموت من الجوع عام المجاعة فانه لو لم يعطه
حتى مات لا يجب عليه و لا على وارثه القضاء لان الواجب انما هو حفظ النفس
المحترمة و هذا لا يقبل البقاء بعد فوته و كما في نفقة الارحام فانه لو ترك
الانفاق عليهم مع تمكنه لا يصير دينا عليه لان الواجب سد الخلّة و إذا فات لا
يتدارك».
(الصفحة 452)
و محصل كلامه ان القضاء ليس بفرض جديد بل هو مقتضى تحقق اشتغال الذمة بالمكلف
به و كون المكلف مديونا للّه تعالى و القضاء يؤثر في فراغ الذمة و ليس من باب
التوبة او الكفارة و يؤيده التعبير الواقع في الآية الشريفة الواردة في الحج
المشتملة على التعبير بكلمتى «اللام و على» و كذا التعليل الوارد في بعض
الروايات المشتملة على وجوب قضاء الحج عمن استقر عليه و لم يأت به حتى مات
بقوله: «لانه بمنزلة الدين الواجب» و قد ورد في رواية الخثعمية المعروفة
الواردة في الحج: «ان دين اللّه احق ان يقضى» و الواجبات الالهية كلها من هذا
القبيل لما عرفت من انها باجمعها ديون للّه و يجرى عليها حكم دين الناس فلا
يتحقق فراغ الذمة الا بالافراغ و القضاء و لا حاجة الى قيام دليل خاص على وجوب
القضاء اصلا و يؤيده بل يدل عليه وجوب القضاء في مثل الصلوة و الصوم من
الواجبات العملية المحضة غير المرتبطة بالمال و عليه فوجوب القضاء في المقام و
هو نذر الحج في سنة معينة و عدم الاتيان به فيها مع التمكن و القدرة ليس على
خلاف القاعدة حتى يحتاج الى دليل خاص.
هذا و لكنه اورد عليه بعض الاعلام في الشرح بما محصله مع توضيح منا: «ان اطلاق
الدين على الواجبات الالهية ليس على نحو الحقيقة لان الاستعمال اعم منها و
الاشتغال اى اشتغال ذمة المكلف بالمكلف به و ان كان امرا مسلما بل الوجوب ليس
في الحقيقة الا اعتبار شىء على ذمة المكلف و ابرازه بمبرز الا ان الكلام في
بقاء الاشتغال بعد خروج الوقت و مجرد الحدوث و ثبوت التكليف في الوقت لا يكفى
لبقاء ذلك بعد الوقت فان الحدوث كما انه يحتاج الى الدليل كذلك البقاء ايضا و
ليس القضاء نفس العمل الواجب سابقا حتى يقال بعدم الحاجة الى امر جديد لان
العمل الواجب سابقا الذى كان مقيدا بالوقت قد فات و هذا العمل الواقع خارج
الوقت عمل آخر مغاير له حقيقة مشابه له صورة و لو كان عينه لكان التأخير الى
خارج الوقت جائزا عمدا مع ان اهمية الوقت في باب القيود و الشرائط بمثابة لا
يزاحمها
(الصفحة 453)
شىء من القيود الاخرى فكيف لا يكون مغايرا مع العمل خارجه فمجرد حدوث اشتغال
الذمة بذلك بمجرد الوجوب الاول لا يكفى في البقاء بعد الوقت بل لا بد من دليل
مستقل كما قام في باب الصلوة و الصوم و في مسئلة الحج عمن استقر عليه و لم يأت
به و فى باب النذر في موردين: احدهما نذر صوم يوم معين إذا صادف ذلك اليوم
العيد او المرض او السفر و ثانيهما نذر الاحجاج مع عروض الموت قبل الوفاء و
فيما لم يرد دليل ـ كما في المقام ـ لا وجه للحكم بوجوب القضاء.
هذا و ربما يقال بان للنذر خصوصية تقتضى جريان حكم الدين عليه من دون فرق بين
ما إذا كان متعلقا بالحج او بالمال او بالعمل المحض كصلوة الليل ـ مثلا ـ لان
مفاد صيغة النذر جعل المنذور للّه تعالى على عهدته و تمليكه اياه شيئا في ذمته
فمقتضى الصيغة ثبوت المتعلق في الذمة و اشتغالها به و لا يتحقق الفراغ في مثل
المقام الا بالقضاء و لازم هذا القول القضاء في مثل صلوة الليل ايضا.
كما انه ربما يقال بان لنذر خصوص الحج حكما خاصا ـ كما افاده صاحب الجواهر ـ
نظرا الى ان الحج ليس تكليفا صرفا بل للامر به جهة وضعية فوجوبه على نحو
الدينية بخلاف سائر العبادات البدنية.
و اورد على الاول بان النذر لا يدل الا على التزام المكلف بالمنذور و مفاد
صيغته انه التزم على نفسه بكذا للّه تعالى و هذا لا يوجب اطلاق الدين عليه الا
مسامحة و ليس مفادها ملكية الشىء المنذور للّه تعالى بل لا يمكن التمليك
المتعارف بالنسبة اليه تعالى لان الملكية الاعتبارية لا معنى لها بالنسبة اليه
تعالى الا ان ترجع الى الالتزام و التكليف لانه مالك لجميع الاشياء بالملكية
الحقيقية الراجعة الى كونها طرا بيده و تحت سلطانه و قدرته و مشيته من دون
اعتبار اىّ جاعل و لا معنى للاعتبار في مورد الثبوت الحقيقى.
و هذا الايراد و ان كان قابلا للمناقشة فان الملكية الاعتبارية المبحوث عنها في
|