(الصفحة 204)
اما من الجهة الاولى فالمشهور و المعروف بين
الاصحاب قديما و حديثا الاجزاء و انه لا يجب على المبذول له الحج ثانيا إذا
استطاع بالاستطاعة المالية خلافا للشيخ في محكى الاستبصار حيث اوجبه ثانيا إذا
أيسر بعد ذلك نظرا الى بعض الروايات الاتية الظاهرة في ذلك و حمل ما يدل على
الاجزاء على ما لا ينافيه كما سيأتى ثم قال ان الوجوب إذا أيسر مطابق للاصول
الصحيحة التى تدل عليها الدلائل و الاخبار.
و قد قواه بعض الاعاظم من المعاصرين في ابتداء كلامه و ان جعله مقتضى الاحتياط
الوجوبى في اثنائه و مقتضى الاحتياط الاستحبابى في آخره.
و اما من الجهة الثانية فقد مر ان العمدة في
مسئلة الاستطاعة البذلية هى صحيحة علاء بن رزين المتقدمة و ظاهرها ان من عرض
عليه الحج فاستحيى فهو ممن يستطيع و ظاهره بقرينة الصدر الذى وقع تفسيرا لاية
الحج ان الحج البذلى مصداق من الحج الواجب فى الاية الذى يكون فرضا في الاسلام
و عليه فالحج البذلى مصداق لحجة الاسلام بعد كون المراد بها ما هو الواجب في
الشرع مرة واحدة طول العمر فالتعبير بكونه مجزيا عن حجة الاسلام كما في المتن و
غيره لا يخلو عن مسامحة و عناية و بالجملة مقتضى الدليل الذى هو الاساس في بحث
الاستطاعة البذلية هو الاجزاء و ما في كلام الشيخ (قدس سره)المتقدم من ان
الوجوب إذا أيسر مطابق للاصول الصحيحة لم يعرف له وجه لان الاصل الصحيح الذى
يمكن ان يعول عليه في الحكم بالوجوب إذا ايسر هو الاستصحاب نظرا الى انه قبل
البذل كان يجب عليه الحج إذا استطاع فبعده و الاتيان بالحج و الاستطاعة المالية
بعده يكون الوجوب باقيا بحاله فاللازم الاتيان به ثانيا.
و يرد عليه ـ مضافا الى انه لا مجال للاستصحاب مع وجود الامارة المعتبرة كما في
المقام على ما عرفت من دلالة صحيحة علاء على الاجزاء و الى ان جريان الاستصحاب
التعليقى محل خلاف و اشكال ـ ان مورد الاستصحاب التعليقى و مجريه على تقدير
(الصفحة 205)
جريانه ما إذا كان التعليق واقعا في لسان الدليل الشرعى و اما إذا كان التعليق
غير واقع كذلك بل ارجع الدليل اليه كما في المقام فانه ليس في آية الحج تعليق
لان قوله تعالى: «من استطاع» بيان للناس الواقع في صدر الآية فلا مجال لجريان
الاستصحاب التعليقى بعد عدم وجود التعليق في لسان الدليل كما قرر في محله من
الاصول.
و اما من الجهة الثالثة فقد وردت في المقام
طائفتان:
احديهما ما تدل على الاجزاء مثل صحيحة
معاوية بن عمار قال: قلت لابى عبد اللّه (عليه السلام) رجل لم يكن له مال فحج
به رجل من اخوانه ايجزيه ذلك عنه عن حجة الاسلام ام هى ناقصة؟قال: بل هى حجة
تامة.(1) و جعل الاجزاء و النقص في السؤال متقابلين قرينة واضحة على
ان المراد بالتمامية في الجواب هو الاجزاء كما لا يخفى.
و صحيحة جميل بن دراج عن ابى عبد اللّه (عليه السلام) في رجل ليس له مال حج عن
رجل او أحجه غيره ثم اصاب مالا هل عليه الحج؟ فقال يجزى عنهما جميعا.(2)
قال في الوسائل بعد نقل الحديث: «اقول يحتمل كون الاجزاء حقيقة بالنسبة الى من
حج عنه مجازا بالنسبة الى النائب، و يحتمل عود الضمير في قوله: عنهما الى
الرجلين المنوب عنهما دون النائب، و يحتمل الحمل على الانكار و اللّه اعلم».
و ذكر بعض الاعلام: انه يحتمل عود الضمير في قوله: عنهما الى ما اتى به من الحج
و الى ما لم يأت به بمعنى ان ما حجه يجزى و يكون صحيحا و يجزى ايضا عن الحج إذا
استطاع و أيسر اى لا يجب عليه الحج ثانيا إذا أيسر و يحتمل عوده و ارجاعه الى
الشخصين اى النائب و المبذول له و لكن في مورد النائب نلتزم بالحج عليه إذا
أيسر لاجل دليل آخر دال على عدم سقوطه عنه.
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب العاشر ح ـ 2
-
2 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب الواحد و العشرون ح ـ 21
(الصفحة 206)
اقول مع وجود الاجمال في الجواب من جهة مرجع ضمير التثنية لا مجال للاشكال فى
دلالتها على الاجزاء في المقام و انه لا يجب على المبذول له الحج ثانيا كما هو
ظاهر.
الثانية ما تدل بظاهرها على عدم الاجزاء مثل
معتبرة فضل بن عبد الملك عن ابى عبد اللّه (عليه السلام) قال سئلته عن رجل لم
يكن له مال فحج به اناس من اصحابه أقضى حجة الاسلام؟قال نعم فان أيسر بعد ذلك
فعليه ان يحج قلت هل تكون حجته تلك تامة او ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟قال
نعم قضى عنه حجة الاسلام و تكون تامة و ليست بناقصة و ان أيسر فليحج الحديث.(1)
و رواية ابى بصير عن ابى عبد اللّه (عليه السلام) قال لو ان رجلا معسرا احجه
رجل كانت له حجته فان ايسر بعد ذلك كان عليه الحج الحديث.(2) هذا و
قد جمع بين الطائفتين بوجوه:
الاول ما ذكره الشيخ (قدس سره) في محكى
الاستبصار من ان صحيح معاوية الدال على الصحة و انها حجة تامة لا ينافى صحيح
الفضل الدال على الوجوب إذا أيسر و استطاع لان صحيح معاوية اخبر ان ما حجه
بالبذل صحيح و يستحق بفعلها الثواب و هذا مما لا كلام و لا خلاف فيه.
و يرد عليه ما عرفت من ان كلمة التمامية قد استعملت في صحيحة معاوية بمعنى
الاجزاء و النقص بمعنى عدم الاجزاء فلا مجال لحمل التمامية على مجرد الصحة و
استحقاق الثواب حتى لا ينافى الوجوب إذا ايسر و استطاع.
الثانى ما ذكره بعض الاعاظم من المعاصرين من
ان الطائفة الثانية مفسرة للطائفة الاولى لان الظاهر من الاولى ان حجه حجة
الاسلام الى آخر عمره اى
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب العاشر ح ـ 6
-
2 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب الواحد و العشرون ح ـ 5
(الصفحة 207)
من دون قيد و شرط و لازمه عدم وجوب الحج عليه ثانيا و ان استطاع و مقتضى
الطائفة الثانية ان حجه حجة الاسلام بشرط ان لا يتحقق له الاستطاعة بعده فان
مات قبل حصول ذلك كان حجه حجة الاسلام و الا كان عليه الحج ثانيا فاختلافهما
بالاطلاق و الاشتراط قال و هذا نظير ما ورد في حق الصبى و المملوك من ان الصبى
إذا حج به فقد قضى حجة الاسلام حتى يكبر و العبد إذا حج به فقد قضى حجة الاسلام
حتى يعتق.(1) و يرد عليه عدم وضوح كون هذا النحو من الجمع جمعا
مقبولا عند العقلاء في المقام و ان كان حمل المطلق على المقيد امرا شايعا
مقبولا عندهم كما لا يخفى و استعمال حجة الاسلام في الرواية على سبيل المسامحة
بعد دلالة الادلة الكثيرة على اعتبار البلوغ و الحرية فى الوجوب الذى هو قوام
حجة الاسلام.
الثالث ما يظهر من المشهور و قد صرح به
الشيخ (قدس سره) في التهذيب من حمل الطائفة الثانية الدالة على وجوب الحج ثانيا
على الاستحباب جمعا بينها و بين الطائفة الاولى الظاهرة في الاجزاء و عدم
الوجوب.
و يرد عليه مضافا الى ان حمل الامر على الاستحباب و ان كان غير بعيد الا ان حمل
قوله (عليه السلام) عليه ان يحج او عليه الحج كما في صدر رواية الفضل و ابى
بصير على الاستحباب في غاية البعد ان ظاهر هذه الطائفة كون الحكم الثابت بعد
اليسار مختصا بمن حج عن استطاعة بذلية و انه هو الذى يأتى بالحج ثانيا مع انه
لو كان المراد هو الحج الاستحبابى لما كان ذلك مختصا به لان استحباب الحج ثابت
بالاضافة الى الجميع فتدبر.
الرابع ما ذكره صاحب الوسائل بعد نقل رواية
الفضل بن عبد الملك و بعد نقل حمل الشيخ (قدس سره) اياها على الندب و حكمه بانه
جيد من قوله: و يمكن الحمل على الوجوب الكفائى كما مر في الحج الثانى، و على
كون الحج الاول على وجه
-
1 ـ ئل ابواب وجوب الحج و شرائطه الباب السادس عشر ح ـ 2
(الصفحة 208)
النيابة عن الغير كما يأتى.
و مراده من الوجوب الكفائى هو الوجوب الثابت بمقتضى ما دل على انه لا يجوز
تعطيل الكعبة و لا يجوز ان لا يشترك احد في مراسم الحج و الاتيان بمناسكه و من
الواضح كون هذين الحملين ايضا في غاية الاستبعاد.
الخامس ما افاده في المستمسك من قوله: و
العمدة وهن الخبرين بالاعراض و الهجر.
و يرد عليه ان اعراض المشهور عن الخبر و ان كان موجبا لسقوطه عن الاعتبار و ان
كان من حيث هو في غاية الصحة الا انه لا بد من احراز الاعراض و تحقق الهجر و هو
غير ثابت في المقام لانه يحتمل ان يكون الخبر ان محمولين عند المشهور على
الاستحباب بل هو الظاهر على ما ذكرنا تبعا للشيخ في كتاب التهذيب و مع هذا
الاحتمال لا يكون الاعراض بمحرز اصلا.
هذه هى وجوه الجمع و قد عرفت المناقشة في الجميع و لكن الحمل على الاستحباب
اولى من الجميع و ان لم نقل به فالظاهر تحقق المعارضة و الترجيح ـ حينئذ ـ مع
روايات الاجزاء لانها الموافقة للشهرة الفتوائية التى هى اول المرجحات في باب
المتعارضين على ما ثبت في محله فالنتيجة ـ حينئذ ـ هو القول بالاجزاء كما في
المتن هذا تمام الكلام في المقام الاول.
المقام الثانى فيما لو رجع الباذل في
الاثناء و الظاهر ان مراد المتن من كلمة «الاثناء» ليس هو اثناء مناسك الحج و
اعماله حتى يختص فرض المسئلة بخصوص هذا الفرض بل اعم منه و من الرجوع قبل
الاحرام لانه ايضا رجوع في الاثناء اى بعد الشروع الذى يتحقق بالسفر من وطنه
الى مدينة ـ مثلا ـ و يؤيده قوله: متمكنا من الحج مع انه لو كان المراد هو
اثناء الاعمال لكان المناسب ان يقول: متمكنا من اتمام الحج كما لا يخفى و كيف
كان ففى مسئلة الرجوع فرضان: