(الصفحة 108)
وأمّا فساد الإجارة، فالدليل الوحيد في هذا الباب هو خبر صابر المتقدّم بناءً على المعنى الذي ذكرناه; ضرورة أنّ حرمة الأجر لا تكاد تجتمع مع الاتّصاف بالصحّة .
ودعوى أنّه يكفي في الحكم بالفساد وقوع الاُجرة في مقابل المنفعة المحرّمة الساقطة عند الشارع، مدفوعة بما أشرنا إليه من أنّ الاُجرة لا تقع في الإجارة في مقابل المنفعة، بل حقيقة الإجارة إضافة خاصّة بين المستأجر والعين المستأجرة، ولاتكون عبارة عن تمليك المنفعة بعوض، كما يدلّ عليه التعبير بها في حقيقة الإجارة في كثير من الكلمات ، ويؤيّد ما ذكرنا تعلّق الإيجار والاستئجار بنفس الدار مثلاً .
وكيف كان، فالظاهر أنّه لا دليل على فساد الإجارة وبطلانها غير الخبر المتقدّم الذي عرفت المناقشة في سنده على كلّ حال، واحتمال استناد المشهور إليها على فرض قولهم بالبطلان غير معلوم .
الفرع الرابع : بيع الخشب ممّن يعلم أنّه يجعله صنماً أو صليباً، وكذا بيع العنب والتمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً، وهكذا من الأمثلة، وإجارة المساكن ممّن يعلم بأنّه يعمل فيها محرّماً لا غير، وشبه ذلك ، والكلام فيه في مقامين :
المقام الأوّل : فيما تقتضيه القواعد والضوابط في مثل الفرع، وقد قوّى في المتن الحرمة في وجه قويّ، ومنشؤها أحد اُمور على سبيل منع الخلوّ :
الأمر الأوّل : الآية الدالّة على النهي عن التعاون على الإثم والعدوان(1)، بناءً على
(الصفحة 109)
ما ذكرنا(1) من أنّ المراد من التعاون هي الإعانة ، ولكن وقع البحث والخلاف في بيان معنى الإعانة وحقيقتها ، مع أنّها من الاستعمالات العرفيّة الكثيرة .
ومحصّل ما ذكروه في هذا المجال يرجع إلى الأقوال التالية :
أحدها : فعل بعض مقدّمات فعل الغير وعمله المحرّم; سواء كان مقروناً بقصد حصوله منه، أم لم يكن كذلك ، وسواء وقع المعان عليه في الخارج وتحقّق من الغير أم لا .
ثانيها : ما ذكره المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد; من أنّ صدق الإعانة على بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ممنوع، وإنّما تتحقّق المعاونة مع بيعه لذلك(2) ، ووافقه على ذلك صاحب الكفاية(3) وجماعة من متأخّري المتأخّرين على ما حكى عنهم(4).
ثالثها : ما حكاه الشيخ الأعظم(5) عن بعض معاصريه من اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة في الخارج زائداً على اعتبار قصد المعين ذلك(6) .
رابعها : ما حكي عن المحقّق الأردبيلي في زبدة البيان في تفسير الآية المذكورة; من أنّ الظاهر أنّ المراد بالإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الذي يصدق أنّها إعانة، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها، أو يطلب منه القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه، ونحو ذلك ممّا يعدّ معاونة عرفاً، فلا تصدق
- (1) في ص92 ـ 96 .
- (2) حاشية إرشاد الأذهان، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 9: 318.
- (3) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 425 ـ 426.
- (4) مستند الشيعة 14: 100.
- (5) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 133.
- (6) عوائد الأيّام: 75 ـ 79.
(الصفحة 110)
على التاجر الذي يتّجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور، ولا على الحاجّ الذي يؤخذ منه المال في طريقه ظلماً، وغير ذلك ممّا لايحصى، فلا يعلم صدقها على بيع العنب ممّن يعمل خمراً، أو الخشب ممّن يعمل صنماً ، ولهذا ورد في الروايات الصحيحة جوازه(1)،وعليه الأكثر، ونحو ذلك ممّا لايخفى(2) ، انتهى .
خامسها : ما اختاره بعض الأعلام (قدس سره) من أنّه لا يعتبر في صدق الإعانة شيء إلاّ وقوع المعان عليه في الخارج (3)، ولعلّه يقرب من القول الأوّل أو هو نفسه، إلاّ أن يُراد عدم لزوم كون المعين إنساناً حتّى يشمل مثل العصا ونحوها، فإنّ الظاهر عدم انطباق القول الأوّل عليه .
سادسها : ما اختاره صاحب كتاب العناوين، الذي ذكر أنّه من تقريرات ابني الشيخ جعفر الكبير صاحب كشف الغطاء; وهو كتاب نفيس قد استفدت منه كثيراً، سيّما في كتابنا في القواعد الفقهيّة المشتمل على عشرين قاعدة مهمّة من تلك القواعد، ومحصّله: أنّ الضابط في ذلك أحد أمرين :
أحدهما : القصد والنيّة، فكلّ من عمل أو باع أو آجر أو قام أو قعد أو صدر عنه فعل من الأفعال بقصد ترتّب ظلم أو معصية عليه بحيث بنى نيّته عليه; سواء شرط ذلك بلسانه أم لا ، يُعدّ إعانة للإثم ولو كان بواسطة أو وسائط; وذلك أمر في العرف واضح ـ إلى أن قال : ـ
ثانيهما : قرب العمل من الإعانة وتمحّضه لذلك بحيث يعدّ إعانة وإن لم يكن قاصداً... كما لو كان مثل الوزراء والعمّال والكُتّاب والجنود; فإنّ هذه الجماعة
- (1) وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59.
- (2) زبدة البيان : 382 ـ 383.
- (3) مصباح الفقاهة 1: 290.
(الصفحة 111)
وإن لم يكونوا قاصدين من عملهم الإعانة على المعاصي والظلم، لكن هذه الصنعة و هذه المناصب تعدّ معاونة لقيام الشوكة بهم .
وكذلك قد يكون ذهاب شخص إلى عاص أو ظالم سبباً لجرئته و شوكته من جهة كون سيره إليه سبباً لبعض قوّة له في عمله(1) ، انتهى .
وهذا البيان إمّا راجع إلى ما ذكره المقدّس الأردبيلي في تفسير الآية على ماعرفت أو قريب منه، كما لايخفى .
وصرّح في ذيل كلامه بأنّه لا يشترط ترتّب المعصية المقصودة عليه ، فلو فعل فعلاً ونوى الإعانة لكن لم يترتّب المعصية لعروض مانع عنه فصدق الإعانة على الإثم غير مستبعد .(2)
وقبل الخوض في بيان الصحيح من الأقوال نقول : إنّه لا شبهة في استعمال الإعانة في موارد عدم ثبوت القصد أصلاً، مثل:
ما ورد في أحاديث الفريقين من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه(3); ضرورة أنّ الآكل للطين لا يكون قاصداً لموته، بل مريداً لدوام حياته بذلك ، وفي الاستعمالات العرفيّة ينسب كثيراً الإعانة إلى غير الإنسان من الأشياء غير الشاعرة، كالعصاوا لهواء والماء و مسير الريح وغير ذلك من الموارد ، ولا مجال لدعوى كون تلك الاستعمالات مع كثرتها مجازية مسامحيّة، خصوصاً مثل الحديث
- (1، 2) العناوين 1: 566 ـ 568.
- (3) الكافي 6: 266 ح8 ، المحاسن 2: 565 ح975، تهذيب الأحكام 9: 89 ح376، وعنها وسائل الشيعة 24: 222، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب58 ح7 .
- المعجم الكبير للطبراني 6:253 ح 6138، السنن الكبرى للبيهقى 14:411 ح 20277، مجمع الزوائد 5:45، كنزالعمال 15:274 ح 40956.
(الصفحة 112)
المذكور الذي يستفاد منه ترتّب استحقاق العقوبة على أكل الطين، وهو لا يتمّ إلاّ بعد كونه إعانة على النفس حقيقة وواقعاً، وإلاّ فلا وجه للترتّب المذكور ، وهكذا صدق المعين على العصا ومثله من الأمثلة المذكورة والموارد غير الشاعرة .
والتحقيق أن يقال : إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّه يعتبر في صدق الإعانة على الإثم وقوع الإثم في الخارج; لأنّ الظاهر من قوله : {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ}(1) هو تحقّقه، وأنّه لا يصدق إلاّ معه، فإذا لم يتحقّق خارجاً ولكنّه أوجد شخص مقدّمات عمله ـ ولو كان مقروناً بقصد صدوره منه ـ لا يقال: إنّه أعانه على الإثم بعد عدم صدوره منه ، بل هو توهّم الإعانة على الإثم في صورة القصد، وهو لايكون إلاّ تجرّياً لا إثماً .
ولكنّه ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن (قدس سره) أنّه يمكن أن يقال : إنّ المفهوم العرفي من الإعانة على الإثم هو إيجاد مقدّمات إيجاد عمله الذي هو الإثم وإن لم يوجد، نظراً إلى أنّه من أعطى سُلّماً لسارق بقصد توصّله إلى السرقة، فقد أعانه على إيجادها، فلو حيل بين السارق وسرقته شيء ولم تقع منه، يصدق على المعطي للسلّم أنّه أعانه على إيجاد سرقته وإن عجز السارق عن العمل، فلو كان تحقّق السرقة دخيلاً في الصدق فلابدّ وأن يقال: إنّ المعتبر في صدق الإعانة إيجاد المقدّمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقة من قبيل الشرط المتأخّر لصدق الإعانة، وكلاهما خلاف المتفاهم العرفي منها، بل هما أمران عقليّان (2). انتهى موضع الحاجة .
- (1) سورة المائدة 5: 2.
- (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 211.