(الصفحة 42)
غرامة مثل العصير ; لأنّ الماليّة قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت(1)بالفرق الواضح بين الأمرين; لأنّ العصير بعد الغليان مال عرفاً وشرعاً، وطهارته لاتحتاج إلى زوال موضوعه، نظير طهارة ماء البئر بالنزح(2) .
الثاني : الروايات الواردة في مثل المقام، وهي :
رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلابأس(3) . والمحكي عن نسخة من التهذيب، وعن الوافي عنه وعن الكافي قوله : فهو حلال مكان «و»(4)، والرواية وإن لم تكن معتبرة بعلي بن أبي حمزة الراوي عن أبي بصير، وبقاسم بن محمّد الراوي عن علي بن أبي حمزة، إلاّ أنّ البحث في مفادها لايكون خالياً عن الفائدة العلميّة .
قال الإمام الماتن (قدس سره) في هذا المجال بعد الاعتراف بالقصور من حيث السند واغتشاش متنها، ما ترجع خلاصته إلى أنّ الشرطيّة لا مفهوم لها; لأنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع; فإنّ مفهوم «إذا بعته كذا» هو إذا لم تبعه ، وأمّا مفهوم القيد فهو من مفهوم اللقب الذي لا يقال به. ولو قيل به في الشرط وعلى فرض المفهوم ـ أي للقيد ـ فإن قلنا بتعدّد الشرط واتّحاد الجزاء كقوله : «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفي الجدران فقصّر»، فإن لوحظ حال الاضطرار المسوّغ لشرب الخمر تكون
- (1) جامع المقاصد 6: 293.
- (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 61 ـ 62.
- (3) الكافي 5: 231 ح3، تهذيب الأحكام 7: 136 ح602، الاستبصار 3: 105 ح369، وعنها وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 ح2.
- (4) الوافي 17: 250 ح17208 و 17209.
(الصفحة 43)
هذه المسألة عين المثال المذكور، وقد رجّح في محلّه إجمال الدليل والرجوع إلى الاُصول العمليّة(1).
وإن لم يلحظ حال الاضطرار يكون المنطوق في الثانية أخصّ من الاُولى، فتقيّد به فيقع إشكال في المتن; لأنّ مرجعه إلى أنّ الدخيل هو قيد الحلّية، وإن قلنا بوحدة المنطوق وكون الشرط أمراً واحداً مركّباً، فقد يقال بأنّ المفهوم ثابت مع ارتفاع كلّ قيد، فيدلّ على أنّ العصير إذا حرم ففيه بأس; سواء قلنا بنجاسته أم لا(2).
ولكن يرد عليه: أنّه وإن كانت غاية تقريب دلالتها على حرمة بيع العصير المغلي مطلقاً، إلاّ أنّ فيه ـ مضافاً إلى أنّها بصدد بيان المنطوق لا المفهوم، فلا إطلاق فيه، والمتيقّن منه ما إذا باعه ممّن يجعله خمراً، أو يطبخه ويجعله بختجاً; فإنّ البختج على ما يظهر من الروايات مسكر يصطنعه الفسّاق(3); وهو على ما قيل: يسمّى «مى پخته»(4) أو «باده».
وكيف كان، لا إطلاق في المفهوم، بل من المحتمل أن يكون المراد بقوله: «ليطبخه»; أي يجعله بختجاً; لبُعد السؤال عن جواز بيع العصير للشيرج، خصوصاً من مثل أبي بصير ـ : أنّ في المنطوق نفي البأس عن بيعه ليطبخه أو يجعله خمراً، ولا يثبت في المفهوم إلاّ نفي البأس المطلق، وهو صادق مع ثبوت البأس لأحد طرفي الترديد .
وبعبارة اُخرى: لا يدلّ المفهوم إلاّ على سلب التسوية بين طرفي الترديد
- (1) راجع تهذيب الاُصول 1: 448.
- (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 124 ـ 126.
- (3) وسائل الشيعة 25: 292 ـ 294، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب7.
- (4) النهاية في غريب الحديث 1: 101، لسان العرب 1: 168.
(الصفحة 44)
لا ثبوت التسوية في الحكم المخالف، مع أنّ ثبوت البأس أعمّ من الحرمة، وكون بعض موارده حراماً لايوجب كون البقيّة كذلك ، فدعوى الجزم أو الظهور في سائر الموارد في غير محلّها . هذا على تقدير نسخة الوسائل ، وأمّا على ما في المحكي عن نسخة من التهذيب، وعن الوافي عنه وعن الكافي(1)، فالرواية تدلّ على جواز بيع العصير قبل صيرورته خمراً وإن عرض له الغليان، كما لايخفى(2) .
ثمّ إنّه أفاد بعض الأعلام (قدس سره) على ما في تقريراته أنّه حيث إنّ أبا بصير الراوي للرواية السائل عن الإمام (عليه السلام) يكون كوفيّاً، والكوفة لم تكن محلاًّ للعنب; لأنّ اليوم كذلك فضلاً عن تلك الأزمنة، بل محلّ للنخل والتمر، يكون مراده من العصير هو عصير التمر لا العنب الذي هو محلّ الكلام فعلاً(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ إطلاق العصير في كلام السائل ينصرف إلى العصير العنبي، كإطلاق المتن في أصل المسألة، ولعلّه يؤيّده جعله خمراً المأخوذ في السؤال، مع أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن من أهل الكوفة، وسؤال مثل أبي بصير وزرارة ومحمّد بن مسلم وأمثالهم لم يكن من المسائل المُبتلى بها لأنفسهم، بل لأجل جمع الأحكام وحفظها وإبقائها للقرون التالية ، ولذا كان بعض الرواة راوياً لآلاف حديث، فلا يكون ارتباطه بالكوفة له دخل في ذلك أصلاً .
والذي يسهّل الخطب ما عرفت من ضعف سند الرواية لا من جهة واحدة، بل من جهات عديدة، فلا اعتبار بها كما لايخفى .
- (1) الوافي 17: 250 ح17208 ب39 بيع الخمر والعصير.
- (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (قدس سره) 1: 124 ـ 127.
- (3) مصباح الفقاهة 1: 177.
(الصفحة 45)
ثمّ إنّ من جملة الروايات رواية أبي كهمس، وقد نقلها الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) بعين القضيّة الشرطيّة المذكورة في كلام الإمام (عليه السلام) في رواية أبي بصير المتقدّمة، لكنّ المذكور في الوسائل في هذا الباب أنّه قال : سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم وأنا أعصره كلّ سنة وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي ، قال : لابأس به، وإن غلى فلا يحلّ بيعه ، ثمّ قال : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً(2) .
وذكر الاُستاذ أنّ مثل هذه الروايات متعرّضة لمسألة اُخرى سيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى; وهي بيع العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً، وهي غير ما نحن بصدده(3) .
أقول : قوله (عليه السلام) : «وإن غلى فلا يحلّ بيعه» ضابطة كلّية مذكورة في كلام الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب عن السؤال، فلابدّ من توجيهه إمّا بما أفاده الشيخ(4) من البيع من دون إعلام المشتري بالواقع، وأنّ هذا مغليّ يحتاج إلى ذهاب الثلثين ، كما أنّه وجّه عدم الخير والنفع الواقع في بعض المرسلات(5) بذلك . وإمّا مع الإعلام فلايحلّ البيع، وبدون هذا التوجيه لِمَ لا يستفاد حكم المقام ـ وهو عدم الجواز ـ من مثل الرواية؟ اللّهم إلاّ أن يقال بثبوت الضعف في الرواية من جهة مجهوليّة
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 63.
- (2) الكافي 5: 232 ح12، وعنه وسائل الشيعة 17: 230، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 ح6.
- (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 127.
- (4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 63.
- (5) الكافي 6: 419 ح2، تهذيب الأحام 9: 120 ح517، وعنه وسائل الشيعة 25: 285، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب2 ح7.
(الصفحة 46)
أبي كهمس .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض في مقابل العمومات والقواعد الدالّة على الصحّة ما يمنع عن جواز التكسّب بالعصير المغليّ .