(الصفحة 48)
السيرة العقلائيّة على ذلك بالنسبة إلى ما لا يكون مالاً عندهم أيضاً، كالماء على الشطّ ونحوه، والظاهر عدم رجوع ذلك إلى ثبوت الملك والحقّ في زمان واحد حتّى إذا زال الأوّل بقي الثاني من دون حاجة إلى الاستصحاب أو معها ، كما أنّ مرجع ماذكرنا ليس إلى كون الحقّ مرتبة ضعيفة من الملكيّة; فإنّ كونها مرتبة ضعيفة منها لا دلالة فيها على بقاء الحقّ مع زوال الملك، واستصحاب الكلّي بنحو القسم الثاني إنّما يجري فيما إذا تردّد أمر الفرد الذي وجد معه الكلّي بين القصير والطويل.
وما في كلام المحقّق الايرواني ممّا تقدّم من استصحاب بقاء العلقة فيما إذا كان أصل المال ملكاً للشخص ، يرد عليه:
أوّلاً: أنّ ثبوت الفرد الطويل في الصورة المفروضة كان معلوماً; لأنّ الفرض أنّ أصل المال كان ملكاً للشخص، كما إذا مات حيوان له .
وثانياً: أنّ محلّ البحث في استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان موضوع الحكم الشرعي هو الكلّي بعنوانه; ضرورة أنّ استصحاب الكلّي لا يثبت حدوث الفرد الطويل، ولا تكون العلقة بعنوانها موضوعاً للحكم الشرعي .
وأمّا ما ذكر في باب المعاطاة من أنّ من جملة أدلّة أصالة اللزوم فيها مع الشكّ في لزومها و جوازها إنّما هو استصحاب بقاء العلقة(1)، فالمراد منه هو استصحاب علقة الملكيّة الثابتة قبل الفسخ بالإضافة إلى البائع بملاحظة الثمن، و بالإضافة إلى المشتري بلحاظ المثمن; ضرورة أنّ العلقة الثابتة المتيقّنة كانت هي خصوص علقة الملكيّة التي شكّ في بقائها بعد الفسخ; لأجل الشكّ في لزوم المعاطاة وجوازها، وإلاّ فالعلقة بإطلاقها لا يكون حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لأثر شرعيّ، والمعتبر في
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3: 51.
(الصفحة 49)
الاستصحاب ذلك كما حقّق في محلّه(1) .
كما أنّه يرد على التمسّك بالعموم المذكور أنّ مورده غير مثل المقام من الأمكنة العامّة المشتركة، فدلالة الدليل على فرض ثبوته على كون السابق أحقّ وأولى لايرتبط بالمقام الذي لا يكون الأصل ملكاً له بالحيازة أو بالبيع أو بغيرهما، مع أنّ الاتّصاف بالسابقيّة الموجبة لتحقّق الأولويّة ممنوع، خصوصاً فيما إذا لم يكن المال عنده أصلاً، كما لايخفى .
فالإنصاف أنّ عمدة الدليل هو قيام السيرة القطعيّة كما عرفت، لا الوجوه الاُخر المذكورة ممّا تقدّم وغيره .
الجهة الثانية : في أنّ اللازم من ثبوت الحقّ المذكور القابليّة للإسقاط; لأنّها أقلّ أثر يتقوّم به عنوان الحقّ ، كما أنّ الظاهر الانتقال إلى الوارث بعد موت المورّث; لما ورد من الدليل على أنّ كلّ ما كان من مال أو حقّ، فهو لوارثه بعده(2) .
وممّا ذكرنا يظهر جواز المصالحة عليه بلا عوض . وأمّا مع ثبوت العوض بحيث يتحقّق عنوان المعاوضة فقد نفى في المتن خلوّه عن الإشكال، بل نفى البُعد عن دخوله في الاكتساب الممنوع المعنون في المسألة الاُولى المتقدّمة ، ولعلّ الوجه فيه عدم كونه متّصفاً بالماليّة و صلاحيّة المعاوضة، وليس نفي الاتّصاف بالماليّة لأجل كونه حقّاً; فإنّ الحقّية لا تنافي الماليّة، كما في مثل حقّ التحجير، بل لأجل عدم كونه مالاً رأساً، إمّا في الشرع وإمّا مطلقاً ولو عند العقلاء، كالماء على الشط على ماعرفت .
- (1) كفاية الاُصول : 418، سيرى كامل در اصول فقه 15: 256.
- (2) وسائل الشيعة 26: 68، كتاب الإرث، أبواب موجبات الإرث ب2.
(الصفحة 50)
الجهة الثالثة : أنّه بعد ثبوت حقّ الاختصاص والأولويّة وإن كان لا تجوز المعاوضة بالمال; لما مرّ من عدم كونه مالاً شرعاً أو مطلقاً، إلاّ أنّه يجوز بذل المال لرفع اليد والإعراض عن مثل الميتة والخمر ليحوزه الباذل فيصرفه في غذاء كلبه أو تقوية أشجار بستانه، أو رشّ الخمر على الأرض لحصول الرطوبة والخروج عن اليبوسة وإن كانا لا يصلحان للأكل والشرب.
وهذا كما في الأمكنة العامّة المشتركة; فإنّه يجوز بذل المال للسابق ليرفع اليد عن ذلك المكان المشترك كالمسجد والمدرسة، ثمّ بعد الرفع والإعراض يجوز للباذل الحيازة والسبقة، كما نراه في صفوف الجماعات المهمّة من سبقة أشخاص إلى الحيازة ثمّ رفع اليد مع بذل المال .
وأمّا إيقاع المعاوضة الماليّة فغير جائز، كما أنّ المزاحمة مع السابق من دون أن يرفع اليد عن مكانه من المدرسة أو المسجد فكذلك . نعم، الظاهر أنّه لو رفع المالك يده عنه وأعرض مطلقاً من دون أن يفوّضه إلى شخص خاصّ يكون الجميع فيه شرع سواء، والسابق أولى من غيره وأحقّ به، كما لو فرض أنّه أعرض عن المدرسة وانتقل إلى دار شخصيّه; فإنّه يجوز للسابق الحيازة وهو أحقّ به، كما لا يخفى.
(الصفحة 51)
مسألة 3 : لا إشكال في جواز بيع ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة، كشعرها وصوفها، بل ولبنها إن قلنا بطهارته ، وفي جواز بيع الميتة الطاهرة ـ كالسمك ونحوه ـ إذا كانت له منفعة ولو من دهنه، إشكال لا يترك الاحتياط1.
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في موردين :
أحدهما : بيع ما لا تحلّه الحياة ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة كالشعر والصوف، وقد تقدّم في مبحث النجاسات الاختلاف بعد الاتّفاق على طهارة تلك الأجزاء، في أنّه هل يكون خروجها عن أدلّة نجاسة الميتة بنحو التخصّص، وأنّ تلك الأدلّة لا تشمل الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، فيكون مقتضى القاعدة الطهارة كما اختاره سيّدنا الماتن (قدس سره) (1)، أو يكون بنحو التخصيص لدلالة الأخبار الكثيرة(2)على الطهارة على خلاف القاعدة، كما اخترناه وحقّقناه(3) ؟ وعلى أيّ حال تكون تلك الأجزاء طاهرة لا نجسة، ومع هذا الفرض لا مجال للحكم بعدم جواز البيع بعد ثبوت المنفعة المحلّلة المقصودة، كما هو المفروض .
ثمّ إنّه لو فرض الحكم بالنجاسة فالظاهر أنّه لا دليل على مجرّد كون النجاسة مانعة عن صحّة البيع، وذلك لما عرفت(4) في بحث الدم من جواز بيعه مع ثبوت المنفعة المحلّلة المقصودة له، كالتزريق إلى بعض المرضى، وأنّه لا دليل على عدم الجواز من حيث هو دم نجس .
- (1) كتاب الطهارة للإمام الخميني(رحمه الله) 3: 138.
- (2) وسائل الشيعة 3: 513 ـ 515، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب68.
- (3) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 68 ـ 87 .
- (4) في ص 28.
(الصفحة 52)
ثانيهما : بيع الميتة الطاهرة ـ كالسمك ونحوه ـ إذا كانت له منفعة ولو من دهنه، وقد استشكل في المتن في الجواز، بل نهى عن ترك الاحتياط ، ولكنّ الشيخ الأعظم استظهر أنّه لا خلاف في جوازه، وعلّله بوجود المقتضى وعدم المانع; لأنّ أدلّة عدم الانتفاع بالميتة مختصّة بالنجسة، وقال : صرّح بما ذكرنا جماعة(1)،(2)
ولعلّ وجه الإشكال فيه في المتن ; إمّا دعوى عدم الاختصاص، وإمّا عدم كون المنفعة المذكورة مقصودة، وكلاهما ممنوعان .
- (1) منهم: المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة 18: 77، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 12: 58 ـ 64، وصاحب الجواهر فيه: 22: 17.
- (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 40.