(الصفحة 170)
بالتي يدخل عليها الرجال» أمكن تطبيق كلامه على أنّ المحرّم هو الصوت اللهوي الذي يناسبه اللعب بالملاهي، والتكلّم بالأباطيل، ودخول الرجال على النساء; لحظّ السمع والبصر من شهوة الزنا، دون مجرّد الصوت الحسن الذي يذكّر اُمور الآخرة ويُنسي شهوات الدُّنيا .
إلاّ أنّ الاستشهاد المذكور ظاهر في التفصيل بين أفراد الغناء لا من حيث نفسه(1) .
وحكي نظير ذلك عن السبزواري صاحب الكفاية(2) .
واُورد عليه بإيرادات :
منها : أنّ الظاهر من الروايات الكثيرة التي عرفت جملة منها ، بل المتواترة من حيث المعنى، هو النهي عن الغناء من حيث نفسه مع قطع النظر عن اقترانه بسائر العناوين المحرّمة .
ومنها : أنّه إذا كان تحريم الغناء إنّما هو للعوارض المحرّمة، كان الاهتمام بالمنع عنه في هذه الروايات لغواً محضاً; لورود النهي عن سائر المحرّمات بأنفسها .
ومنها : أنّ رواية الفقيه مرسلة لا اعتبار بها ، كما أنّ رواية أبي بصير وإن كانت صحيحة، إلاّ أنّه لا دلالة فيها على قصد المحدّث المذكور; فإنّ غاية ما يستفاد منها
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 299 ـ 300.
- (2) كفاية الفقه المشتهر بـ«كفاية الأحكام» 1: 432 ـ 434، وقال بعد نقل كلام عن الشيخ أبي علي الطبرسي في مجمع البيان (ج1 ص17 ـ 18): وهذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفاً بين القدماء، وكلام السيّد المرتضى في الغرر والدرر (أمالي المرتضى 1: 57 ـ 58) لا يخلو عن إشعار واضح بذلك.
(الصفحة 171)
ومن رواية اُخرى لأبي بصير(1) استثناء الغناء في العرائس ، فلا دلالة لهما على حكم المطلق .
والروايات الواردة في استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن لا ارتباط لها بالمقام ; لعدم الملازمة بين الصوت الحسن وبين الغناء، وثبوت المغايرة بينهما(2) .
قلت : رواية الفقيه وإن كانت مرسلة، إلاّ أنّها من المرسلات المعتبرة عندنا; لإسناد الصدوق المتن إلى الإمام (عليه السلام) من دون واسطة، حيث قال : سأل رجل عليّ ابن الحسين(عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة ـ يعني بقراءة القرآن ـ والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور.
ولكنّ المفروض في السؤال ثبوت الصوت للجارية، والمراد منه وإن كان هو الصوت الحسن، إلاّ أنّه غير الغناء المحظور، وإن كان توصيف قراءة القرآن والزهد والفضائل، بما لا يكون غناءً، ربما يشعر بما قاله المحدّث المذكور، فتدبّر ; فإنّ القيد احترازيّ لا توضيحي، وهو وصف للقراءة لا للاُمور المقرّرة ، كما أنّ الظاهر أنّ التفسير من كلام الإمام (عليه السلام) ، لا من الصدوق .
ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ لعنوان الغناء موضوعيّة، وليس المعتبر في الحرمة الاقتران بالمحرّمات الخارجيّة، أنّه قد يكون الغناء خالياً عن الكلام رأساً، ولايكون فيه أمر مثل دخول الرجال على النساء، والالتزام بعدم الحرمة في مثل ذلك في كمال البُعد .
- (1) الكافي 5: 119 ح1، تهذيب الأحكام 6: 358 ح1024، الاستبصار 3: 62 ح207، وعنها وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب15 ح1، وفي الوافي 17: 205 ح17121 عن الكافي والتهذيب، وفي مرآة العقول 19: 80 ح1 عن الكافي.
- (2) مصباح الفقاهة 1: 482 ـ 483.
(الصفحة 172)
الأمر الثاني : أنّه لا محيص عن الالتزام بحرمة التكسّب بالغناء بعد ثبوت الحرمة; لما عرفت(1) من اعتبار أن يكون متعلّق الإجارة في الإجارة على الأعمال من الأعمال المباحة غير المحرّمة ، فالقول بأنّ الغناء حرام يستلزم القول بحرمة التكسّب به بلا إشكال .
وأمّا الاستماع، فهل هو حرام كما في المتن، أم لا ؟ نظير التصوير الذي عرفت أنّ إيجاد الصورة من ذوات الأرواح بنحو التجسيم حرام(2)، ولكن اقتناء تلك الصورة المحرّمة، وبيعها وشراؤها حلال، فضلاً عن مجرّد النظر(3).
ربمايستدلّ على الحرمة بالإجماع، كماادّعى القطع به الفاضل النراقي في المستند(4).
وبرواية الطاطري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات؟ فقال : شراؤهنّ وبيعهنّ حرام، وتعليمهنّ كفر، واستماعهنّ نفاق(5) .
ومقتضى إطلاق المنع عن الاستماع الشمول للمحارم أيضاً ، كما أنّ الظاهر أنّ التعبير بالنفاق أهمّ من التحريم .
ومثلها رواية إبراهيم بن أبي البلاد قال : أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن تبيعهنّ (يُبَعْنَ خ ل) ويحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن (عليه السلام) . قال إبراهيم : فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إليه، فقلت له : إنّ مولى لك يُقال
- (1) في تفصيل الشريعة فى شرح تحرير الوسيلة، كتاب الإجارة: 44 ـ 49.
- (2) في ص139 ـ 146، الفرع الأوّل.
- (3) في ص157 ـ 161، الفرع الخامس.
- (4) مستند الشيعة 14: 133.
- (5) الكافي 5: 120 ح5، تهذيب الأحكام 6: 356 ح1018، الاستبصار 3: 61 ح201، وعنها وسائل الشيعة 17: 124 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب16 ح7، وفي الوافي 17: 207 ح17125 ومرآة العقول 19: 81 ح5 عن الكافي.
(الصفحة 173)
له: إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات وحمل الثمن إليك، وقد بعتهنّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال : لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت، وتعليمهنّ كفر، والاستماع منهنّ نفاق، وثمنهنّ سحت (1).
ورواية عنبسة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : استماع اللّهو والغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء الزرع(2) .
ومرسلة إبراهيم بن محمّد المدني ـ التي في طريقها سهل أيضاًـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سئل عن الغناء وأنا حاضر؟ فقال : لا تدخلوا بيوتاً الله مُعرض عن أهلها(3) . ودلالتها على حرمة الاستماع ممنوعة، كما لايخفى .
ورواية مسعدة بن زياد قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ، فقال له رجل: بأبي أنت واُمّي إنّي أدخل كنيفاً لي ، ولي جيران عندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود، فربما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنّ ، فقال : لا تفعل ، فقال الرجل : والله ما آتيهنّ إنّما هو سماع أسمعه باُذني ، فقال : لله أنت، أما سمعت الله يقول : {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِى عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـلـِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُولاً}(4)؟ فقال : بلى والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية ـ إلى أن قال :ـ قم فاغتسل وصلِّ ما بدا لك; فإنّك
- (1) الكافي 5: 120 ح7، تهذيب الأحكام 6: 357 ح1021، الاستبصار 3: 61 ح204، وعنها وسائل الشيعة 17: 123، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب16 ح5، وفي الوافي 17: 208 ح17128 ومرآة العقول 19: 81 ح7 عن الكافي.
- (2) الكافي 6: 434 ح23، وعنه وسائل الشيعة 17: 316، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب101 ح1 والوافي 17: 216 ح17151 ومرآة العقول 22: 306 ح23.
- (3) الكافي 6: 434 ح18، وعنه وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح12 والوافي 17: 215 ح1746 ومرآة العقول 22: 305 ح18.
- (4) سورة الإسراء 17: 36.
(الصفحة 174)
كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك، الحديث(1) .
ومسعدة بن زياد ثقة على ما حكي عن النجاشي والعلاّمة(2)، وتعبير الإمام (عليه السلام) في الجواب يدلّ على أنّه لم يكن جاهلاً قاصراً، وأنّه لم يكن كأنّه لم يسمع بهذه الآية التي استشهد بها الإمام (عليه السلام) ; ضرورة أنّه لو كان جاهلاً قاصراً لم يكن مقيماً على أمر عظيم، ومتّصفاً بسوء الحال عند الموت .
ورواية أبي أيّوب الخزّاز ـ وفي سندها سهل بن زياد ـ قال : نزلنا بالمدينة فأتينا أبا عبدالله (عليه السلام) ، فقال لنا : أين نزلتم؟ فقلنا : على فلان صاحب القيان ، فقال : كونوا كراماً، فوالله ما علمنا ما أراد به، وظننا أنّه يقول: تفضّلوا عليه، فعدنا إليه فقلنا: لا ندري ما أردت بقولك: «كونوا كراماً»؟ فقال : أما سمعتم الله ـ عزّوجلّ ـ يقول : {وَ إِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا}(3)،(4).
ورواية ياسر ـ وفي سندها سهل أيضاًـ عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : من نزّه نفسه عن الغناء فإنّ في الجنّة شجرة يأمر الله ـ عزّوجلّ ـ الرياح أن تحرّكها فيسمع منها صوتاً لم يسمع مثله ، ومن لم يتنزّه عنه لم يسمعه(5) .
- (1) الكافي 6: 432 ح10، الفقيه 1: 45 ح177، تهذيب الأحكام 1: 116 ح303، وعنها وسائل الشيعة 3: 331، كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة ب18 ح1، وفي الوافي 17: 211 ح17138 ومرآة العقول 22: 303 ح10 عن الكافي.
- (2) رجال النجاشي: 415، الرقم 1109، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 281، الرقم 1029، معجم رجال الحديث 18: 134، الرقم 12273.
- (3) سورة الفرقان 25: 72.
- (4) الكافي 6: 432 ح9، وعنه وسائل الشيعة 17: 316، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب101 ح2 والوافي 17: 211 ح17137 ومرآة العقول 22: 306 ح9.
- (5) الكافي 6: 434 ح19، وعنه وسائل الشيعة 17: 317، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب101 ح3 والوافي 17: 215 ح17147 ومرآة العقول 22: 306 ح19.