(الصفحة 16)
بالإضافة إليهم .
وما في كلام الإمام الماتن (قدس سره) في المكاسب المحرّمة من احتمال إلغاء الخصوصيّة من الموارد الخاصّة(1) فمستبعد جدّاً.
وأمّا الأدلّة الخاصّة، فمنها : ما ورد في العذرة، مثل:
موثّقة سماعة بن مهران قال : سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال : إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال : حرام بيعها وثمنها . وقال : لا بأس ببيع العذرة(2) .
ويحتمل أن يكون ذيل الرواية رواية مستقلّة صدرت في مورد آخر جمعهما الراوي ـ وهو سماعة ـ في كلام واحد ، ويؤيّده الإتيان بالاسم الظاهر فيه دون الضمير مع الإتيان به في قوله: «حرام بيعها وثمنها» ، كما لايخفى .
وكيف كان، فقد ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن (قدس سره) ما ملخّصه: أنّه لا يبعد أن يقال في مقام الجمع: إنّ المراد بـ «حرام بيعها وثمنها» الجامع بين الوضعي والتكليفي ، وبقوله (عليه السلام) : «لا بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفيّة، وفي المقام لولا قوله (عليه السلام) : «ولا بأس...» يكون الظاهر من قوله (عليه السلام) : «حرام . . .» التكليفيّة; لعدم معنى للوضعيّة بالنسبة إلى الثمن إلاّ بتكلّف بعيد، والحمل على الجامع خلاف الظاهر، والحمل على التكليفيّة بالنسبة إلى البيع وإن كان خلاف الظاهر أيضاً، لكنّه أرجح من الحمل على الجامع ، لكن قوله (عليه السلام) : «لا بأس ببيع العذرة» قرينة على أنّ المراد من الحرمة المعنى الأعمّ، سيّما إذا كانت تلك الفقرة في ذيل الاُولى، فكأنّه قال : يحرم بيعها وضعاً ولا بأس به تكليفاً .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 9.
- (2) تهذيب الأحكام 6: 372 ح1081، الاستبصار 3: 56 ح183، وعنهما وسائل الشيعة 17: 175 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح2.
(الصفحة 17)
قال : وما ذكرناه وإن لا يخلو من التكلّف ، لكنّه أرجح من سائر ما قيل في وجه الجمع، بل لايبعد أن يكون مقبولاً مع ملاحظة أنّ في الشريعة بيعاً لا بأس به بعنوانه، وما هو حرام كذلك مع بطلانهما «تأمّل». فتدلّ على عدم حرمة بيعها ذاتاً وإن كان باطلاً، وأنّ مساقها ليس مساق الخمر الحرام بيعها بعنوانه على ما هو ظاهر جملة من الروايات الآتية(1) .
أقول : الظاهر أنّه مع التصريح بحرمة البيع الظاهرة في الحرمة التكليفيّة لا يبقى مجال لنفي البأس عن المنع المذكور الظاهر في الجواز التكليفي . نعم، لو لم يقع التصريح بذلك لكان مقتضى الجمع الدلالي ـ المقبول عند العقلاء، الموجب للخروج عن عنوان التعارض والاختلاف ـ حمل الاُولى على الوضعيّة، والثانية على التكليفيّة، ولم يكن حينئذ تعارض في المتن ، كما هو مقتضى الجمع بين الروايتين الآخرتين الواردتين في المقام :
إحداهما : رواية يعقوب بن شعيب الدالّة على أنّ ثمن العذرة من السحت(2) .
ثانيتهما : رواية محمّد بن المضارب الدالّة على أنّه لا بأس ببيع العذرة(3) ، ولكن حكي(4) عن الأصحاب قديماً وحديثاً الجمع بينهما بوجوه اُخر .
منها : ما عن الشيخ الطوسي (قدس سره) من الجمع بين الطائفتين بحمل رواية المنع على
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 13 ـ 14.
- (2) تهذيب الأحكام 6: 372 ح1080، الاستبصار 3: 56 ح182 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح1.
- (3) الكافي 5: 226 ح3، تهذيب الأحكام 6: 372 ح1079، الاستبصار 3: 56 ح181 ، وعنها وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح3.
- (4) الحاكي هو السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة 1: 81 ـ 90.
(الصفحة 18)
عذرة الإنسان النجسة، ورواية الجواز على عذرة البهائم من الحيوانات التي يحلّ أكل لحمها الطاهرة(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لو لم نقل باختصاص كلمة «العذرة» المذكورة في الروايتين بخصوص عذرة الإنسان; لإطلاق لفظ «الروث» أو «السرقين» عليها ـ : أنّ هذا الجمع تبرّعي محض، وكون القدر المتيقّن من كلا الدليلين بلحاظ الحكم المترتّب عليهما عذرة مغايرة للآخر لا يوجب تحقّق الجمع الدلالي المقبول عند العرف والعقلاء، المخرج من موضوع التعارض المفروض في خبر العلاج وأخباره، مثل مقبولة عمر بن حنظلة(2) .
ومنها : ما حكي عن المجلسي من حمل رواية الجواز على بلاد ينتفع بها ، ورواية المنع على بلاد لا ينتفع بها(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه جمع تبرّعي ـ : أنّ التفصيل المذكور لعلّه يناسب التفصيل في الحرمة الوضعيّة لا التكليفيّة التي هي مورد البحث وإن نوقش في صحّة النسبة إلى المجلسي(4) .
ومنها : ما حكي عن المحقّق السبزواري صاحب كتابي الذخيرة والكفاية(5); من احتمال حمل رواية المنع على الكراهة بقرينة رواية الجواز كما هو الشائع .
- (1) تهذيب الأحكام 6: 372 ذ ح1080. والاستبصار 3 : 56 ذ ح 182 .
- (2) الكافي 1: 67 ح10، الفقيه 3: 5 ح18، تهذيب الأحكام 6: 301 ح845 ، الاحتجاج 2: 260 ، الرقم 232، وعنها وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب9 ح1.
- (3) حكاه العلاّمة المجلسي في ملاذ الأخيار 10: 379 ذ ح 202 عن والده العلاّمة المجلسي الأوّل(قدس سرهما).
- (4) المناقش هو السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة 1: 85 .
- (5) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 422.
(الصفحة 19)
وفيه: ـ مضافاً إلى الفرق بين المقامين; وهو حمل النهي على الكراهة ، وهو الشائع فيها. وأمّا الوارد في المقام فهو لفظ «السحت» ـ إن قلنا باختصاصه بالحرمة، فلا يقبل الحمل على الكراهة، وإن قلنا بعموميّة لفظ «السحت» واستعماله في موارد الكراهة ، كما يظهر من بعض كتب اللغة(1) ، ومن جملة من الروايات الواردة في
الموارد المختلفة(2)، فلا اختلاف بين الروايتين، ولا تعارض أصلاً . ومنه يظهر أنّ ما ذكرناه من الجمع أيضاً مبنيٌّ على كون «السحت» بمعنى الحرمة الكاشفة عن فساد المعاملة إذا اُسند إلى الثمن; ضرورة أنّه لا تعارض بناءً على كونه أعمّاً من الحرمة .
ومنها : ما استقربه المامقاني (قدس سره) في حاشية المكاسب من حمل رواية الجواز على الاستفهام الإنكاري(3) .
ويرد عليه: أنّه خلاف الظاهر، حيث إنّه لا قرينة في رواية الجواز على الاستفهام المذكور بوجه ; لأنّ اختلافه مع الاستفهام الحقيقي ، أو الجملة الخبرية إنّما هو في كيفيّة التلفّظ، وهي غير معلومة مع عدم وجود أداة الاستفهام .
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ـ حيث جعل ذيل رواية سماعة; وهو قوله : وقال: «لا بأس ببيع العذرة» تتمّة للرواية، ولم يحتمل كونه رواية مستقلّة صادرة في وقت آخر قد عطفها الراوي على الرواية الاُولى; أعني صدر الرواية ، كما احتملناه في أوّل البحث ـ ذكر بعد الحكم بأظهريّة جمع الشيخ(4) وإن كان جمعاً تبرّعياً; نظراً
- (1) النهاية في غريب الحديث 2: 345، لسان العرب 3: 251.
- (2) وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب5 وص104 ب9، ومستدرك الوسائل 13: 69 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب5 وص74 ب8 .
- (3) غاية الآمال في حاشية المكاسب 1: 67.
- (4) أي جمع الشيخ الطوسي في التهذيين .
(الصفحة 20)
إلى أنّ رواية ابن شعيب نصّ بالإضافة إلى العذرة النجسة وظاهرة في غيرها أيضاً، ورواية ابن المضارب بعكس ذلك ، فيؤخذ النصّ بالظاهر .
ثمّ قال : ويقرّب هذا الجمع رواية سماعة نظراً إلى أنّ الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أنّ تعارض الأوّلين ليس إلاّ من حيث الدلالة ، فلا يرجع فيه إلى المرجحّات السنديّة أو الخارجيّة، ودفع ما يقال: من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ثمّ التخيير أو التوقّف لا إلغاء ظهور كلّ منهما(1) ، انتهى .
ومراده بالخبرين هو الذي جمع الشيخ بينهما .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ النصوصيّة تغاير القدر المتيقّن ـ ما أورد عليه الماتن (قدس سره) في كتابه المكاسب المحرّمة من أنّ كون تعارض الأوّلين من حيث الدلالة لا يوجبه رفع اليد عن أدلّة العلاج، بل هو محقّق موضوعها . نعم ، لو كشف ذلك عن وجه الجمع بينهما كان لما ذكر وجه، لكنّه كما ترى; لأنّ الميزان في جمع الروايتين هو الجمع المقبول العقلائي، وهو أمر لا يكاد يخفى على العرف، وليس أمراً تعبّدياً يبنى عليه تعبّداً، ومع عدم وجه الجمع بينهما عرفاً، يحرز موضوع التعارض.
وعدم العمل بأدلّة التعارض في رواية واحدة مشتملة على حكمين متنافيين، لايوجب عدم العمل بها في الحديثين المختلفين المستقلّين كما في المقام ، مع أنّ عدم الرجوع إلى المرجّحات في رواية مشتملة على حكمين متنافيين غير مسلّم(2) .
أقول: ـ مضافاً إلى أنّ التعارض الموضوع لأدلّة العلاج كما لا يصحّ أن ترتفع
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 23 ـ 25.
- (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 14 ـ 15.