(الصفحة 93)
{وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ}(1) .
وأورد على الاستدلال بها المحقّق الايرواني (قدس سره) في محكيّ حاشيته على المكاسب ; تارةً بأنّ النهي في الآية لا دلالة له على الحرمة، بل هو حكم تنزيهيّ، وذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ والتقوى الذي ليس للإلزام قطعاً ، واُخرى بأنّ قضيّة باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم والعدوان، كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال، لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلاًّ، وهذا معيناً له بالإتيان ببعض مقدّماته(2) .
وأجاب سيّدنا الماتن (قدس سره) في كتابه في المكاسب المحرّمة عن الإيراد الأوّل بما يرجع إلى أنّه لو سلّمت قرينيّة المقابلة في سائر الموارد، فلا يسلّم في المقام; لأنّ تناسب الحكم و الموضوع وحكم العقل شاهدان على أنّ النهي للتحريم. مضافاً إلى أنّ عطف العدوان الذي هو الظلم على الإثم لا يبقي مجالاً لحمل النهي على التنزيه; ضرورة حرمة الإعانة على الظلم .
وعن الإيراد الثاني، بأنّ ظاهر مادّة العون عرفاً وبنصّ اللغويّين، المساعدة على أمر، والمُعين هو الظهير والمساعد، وإنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلاً في أمر وأعانه غيره عليه ، وحكى عن القاموس والمنجد ـ فيما يرتبط إلى باب التفاعل في المقام ـ قولهما : تعاونوا واعتونوا: أعان بعضهم بعضاً (3)، وعن مجمع البيان في ذيل الآية قوله : أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضاً على البرّ والتقوى ـ إلى أن قال : ـ
- (1) سورة المائدة 5: 2.
- (2) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 97.
- (3) القاموس المحيط 4: 249، المنجد: 539.
(الصفحة 94)
ونهاهم أن يُعين بعضهم بعضاً على الإثم(1)، إلى أن قال الماتن (قدس سره) :
إنّ كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكاً في إيجاد فعل شخصي... ولو كان المراد ذلك يكون مقتضى الجمود على ظاهر الآية هي حرمة شركة جميع المكلّفين في إتيان محرّم واحد، وهو كماترى ، فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضاً في إثمه وعدوانه(2) ، انتهى .
ويؤيّد عدم كون المراد من التفاعل ما ذكره المورد، كثير من الاستعمالات; كالتيامن والتياسر في الصلاة مثلاً، والترقّي والتكامل في العلوم كذلك، والتضامن في بعض التجارات والمراكز التعاونيّة من البنك وغيره وشبه ذلك . وقد ذكرنا في شرح كتاب المضاربة أنّ بعض المحقّقين من محشّي كفاية الاُصول أورد في ذيل حديث لاضرر ولا ضرار(3) موارد كثيرة قد استعملت فيها الصيغ من باب المفاعلة، الذي يكون كالتفاعل في الشهرة أن يكون بين اثنين مع عدم كونها بينهما ، فليراجع(4) .
وبعد ذلك يصير محصّل الآية حرمة الإعانة على الإثم والعدوان، والظاهر عدم تحقّقها في هذا الفرع الذي يكون في البين مجرّد البيع مع الاشتراط أو ما بحكمه; فإنّه من الممكن أن لا يسلّم البائع المبيع الذي هو العنب أو التمر إلى المشتري، ولو فرض التسليم فمن الممكن عدم رعاية المشتري لهذا الشرط، خصوصاً مع علمه بأنّ
- (1) مجمع البيان 3: 257 ـ 258.
- (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 197 ـ 198.
- (3) الكافى 5:280 ح 4 و 293ـ294ح 2، 6 و 8، الفقيه 3:45ح 154و ص 147 ح 648، تهذيب الاحكام 7:146ح 648 و ص 164 ح 727.
- (4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب المضاربة: 10، نقلاً من نهاية الدراية في شرح الكفايــة للأصبهاني 4: 437 ـ 439.
(الصفحة 95)
الشرط المخالف للكتاب والمحلّل للحرام لا يعبأ به، ومع إمكان عدوله عمّا التزم به في المعاملة من الصرف في الحرام.
وما ذكره المحقّق الايرواني في ذيل رواية تحف العقول المتقدّمة(1) من أنّ توصيف نفس إنشاء البيع الساذج بعنوان الإعانة إنّما هو لأجل ملازمته العرفيّة للإقباض، فكان ثانياً وبالعرض هو الإعانة على الإثم، وكلّ بيع كان كذلك ـ ولو ثانياً وبالعرض ـ حرام(2).
مدفوع; بأنّ صدق عنوان الإعانة على البيع كذلك لايوجب سراية تحريمها إليه ، وقد بيّن في الاُصول عدم السراية ولو في الملازمات العقليّة، فضلاً عن العرفيّة التي يمكن التخلّف بين الأمرين، وعدم تحقّق الثاني مع تحقّق الأوّل، فتأمّل .
ولعلّه لذلك ذكر بعض الأعلام (قدس سره) أنّ بين عنوان البيع، وعنوان الإعانة على الإثم عموماً من وجه; لتقوّم مفهوم الإعانة بالاقباض والتسليط الخارجي على العين ولو بغير عنوان البيع مع العلم بالصرف في الحرام وإن كان ينطبق عنوان الإعانة على البيع في بعض الأحيان. وعليه: فلاتستلزم حرمة الإعانة على الإثم حرمة البيع في جميع الموارد(3)، كما هو المدّعى .
وبالجملة: فالآية لا تدلّ على أزيد من حرمة الإعانة على الإثم والعدوان، وفي تحقيق معنى الإعانة وحقيقتها كلام يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في فرع بيع العنب ممّن يعلم أنّه يصرفه في الخمر، من دون إلزام والتزام في المعاملة بذلك، ومن دون تواطئ عليه، فانتظر .
- (1) في ص11 .
- (2) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1:19 ـ 20.
- (3) مصباح الفقاهة 1: 265.
(الصفحة 96)
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) استدلّ بهذه الآية للحكم الوضعي مضافاً إلى الحكم التكليفي أي الحرمة، مع أنّه من الواضح أنّ هذه الآية لا دلالة لها على تقديرها على الحكم الوضعي بوجه، بل مفادها مجرّد حرمة الإعانة على الإثم، كما عرفت .
وممّا استدلّ به الشيخ الأعظم (قدس سره) على بطلان المعاملة في هذا الفرع ـ مضافاً إلى حرمتها ـ قوله ـ تعالى ـ : {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِـلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـرَةً عَن تَرَاض مِّنكُمْ}(2)، حيث قال : إنّ الإلزام والالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل وإيكال للمال بالباطل(3). وحيث إنّ الآية الشريفة قد استدلّ بها في كثير من أبواب المعاملات، سيّما البيع في موارد متعدّدة، فلا بأس ببسط الكلام فيها إجمالاً، فنقول :
قال المحقّق الأردبيلي (قدس سره) في محكيّ زبدة البيان في ذيل الآية: أي لا يتصرّف بعضكم في أموال الناس بغير وجه شرعيّ، مثل الربا والغصب والقمار، ولكن تصرّفوا فيها بطريق شرعيّ; وهو التجارة عن تراض من الطرفين ونحو ذلك(4) ، انتهى .
ويؤيّده الروايات الكثيرة الواردة في تفسير الآية الدالّة على أنّ المراد بها القمار أو مع بعض المحرّمات الاُخر(5) .
ويرد على ظاهر عبارته من تفسير الطريق الشرعي بالتجارة عن تراض، أنّ
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 123.
- (2) سورة النساء 4: 29.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 123.
- (4) زبدة البيان: 542.
- (5) وسائل الشيعة 17: 164 ـ 168، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35.
(الصفحة 97)
مطلق التجارة عن تراض لايكون طريقاً شرعيّاً; فإنّ البيع الغرريّ المنهيّ عنه فيما نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله) تجارة عن تراض، ولكنّه باطل غير صحيح ، اللّهم إلاّ أن يكون مراده التجارة الشرعيّة الناشئة عن تراض. ويؤيّده قوله: «ونحو ذلك» فتدبّر ، إلاّ أن يكون مراده من «نحو ذلك» ما لا يكون تجارةً أصلاً، كالهبة غير المعوّضة ونحوها .
ويظهر ذلك من المحقّق الايرواني، حيث ذكر أنّ الباء للسببيّة دون المقابلة ، وتدلّ الآية على حرمة الأكل بالأسباب الباطلة ، فالآية لا تكون إلاّ للإرشاد(1) . وعلى ما أفاده يظهر بطلان ما أفاده الشيخ من التمسّك بالآية لكلا الحكمين: الوضعي والتكليفي ، فتدبّر .
مع أنّ الظاهر أنّ العناوين المترتّبة عليها الأحكام الشرعيّة لابدّ من الرجوع في مفادّها إلى العرف والعقلاء، إلاّ في العناوين المستحدثة للشارع كالصلاة والصوم والحجّ ومثلها، ولازم ذلك أنّه لابدّ من الرجوع في معنى الباطل إلى العرف والعقلاء .
ومن المعلوم أنّ النسبة بين ما يقول به العقلاء ويحكم بصحّته، وبين ما عند الشارع عموم وخصوص من وجه; فإنّ بعض المعاملات وأنواع التجارات ـ ممّا يكون رائجاً عندهم ـ يكون محرّماً عند الشارع، كبيع الخمر والعين المغصوبة والربا والقمار، وبعض ما هو جائز عند الشارع يكون مجتنباً عنه عند العقلاء ، كبيع الحاكم مال المديون الممتنع عن أداء دينه، أو الزوج القادر الممتنع عن إنفاق زوجته مع عدم رضاهما وعدم إمكان إجبارهما ، وهكذا، ومادّة الاجتماع موارد كثيرة
- (1) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 18.