(الصفحة 259)
ويؤيّدها بالإضافة إلى أربعين ، رواية أبي مريم المتقدّمة، وهل للحدّين موضوعيّة كما هو ظاهر الجمود على الرواية ، أو أنّ ذكرهما ملحوظ بالنظر إلى حاجة الناس، فلو تحقّقت الحاجة قبل الثلاثة، أو لم تتحقّق الحاجة بعد الأربعين لايتّصف صاحبه بالملعونيّة، الظاهر ـ خصوصاً بعد ملاحظة جملة كثيرة من الروايات وحكمة تحريم الاحتكار ـ هو الثاني .
المقام الخامس : ظاهر ما تقدّم من الصحاح والمصباح من أنّ الاحتكار هو حبس الطعام، أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون حصول الحنطة مثلاً عنده بالاشتراء، أو بغيره من أسباب النقل وحصول الملكيّة له، لكن ظاهر جملة من الروايات الواردة في هذا المجال هو التعبير بالاشتراء، خصوصاً مع مقرونيّته بكلمة «إنّما» الظاهرة في الحصر، كما في صحيحة الحلبي الثانية المتقدّمة .
هذا، ولكنّ الأقوى هو الأوّل وإن كان يظهر من بعض العبارات الثاني ، والحصر المتوهّم لا يكون بهذه الملاحظة ، بل بملاحظة ما بعده .
ويؤيّده ما ذكرنا التفريع المذكور في الرواية، ورعاية نكتة حفظ الطعام وحبسه مع احتياج الناس إليه، وعدم وجود باذل غيره .
المقام السادس : في أنّه يجبر الحاكم المحتكر على البيع مطلقاً حتّى على القول بالكراهة وإن تقدّم(1) أنّ الإجبار يلائم الحرمة طبيعة ولا يناسب الكراهة ، إلاّ أنّ ظاهر الكلمات جواز الإجبار كذلك، وكأنّه مستثنى من قاعدة عدم ثبوت الإكراه في غير اللاّزم ، كما أنّ أصل جواز الإجبار مستثنى من قاعدة السلطنة ، والدليل
(الصفحة 260)
عليه ثبوت الجواز بينهم بلا خلاف (1).
نعم ، الإشكال في التسعير عليه ، واحتاط في المتن وجوباً بالعدم إلاّ في صورة الإجحاف بالناس، وجعل الثمن أضعافاً مضاعفة، فيجبر على النزول عنه بحيث لم يكن في البين إجحاف عليهم، من دون التسعير في هذه الصورة أيضاً ; لعدم الدليل عليه .
ويدلّ عليه ما تقدّم ممّا كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر(2) حين ولاّه مصر .
كما أنّه يدلّ على أصل جواز الإجبار ـ مع أنّه مخالف للقاعدة ـ رواية حذيفة بن منصور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : نفد الطعام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأتاه المسلمون فقالوا : يارسول الله قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلاّ عند فلان ، فمره ببيعه .
قال : فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : يا فلان إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفذ إلاّ شيء (شيئاً خ ل) عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه(3) .
- (1) المقنعة: 616، المبسوط في فقه الإماميّة 2: 195، النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 374، السرائر 2: 239، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 260، الدروس الشرعيّة 3: 180، التنقيح الرائع 2: 42، المهذّب البارع 2: 370، الحدائق الناضرة 18: 64، رياض المسائل 8 : 175، مفتاح الكرامة 12: 361، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 4: 373.
- (2) في ص: 255.
- (3) الكافي 5: 164 ح2، تهذيب الأحكام 7: 159 ح705، الاستبصار 3: 114 ح407، وعنها وسائل الشيعة 17: 429، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب29 ح1.
- وفي الوافي 17: 390 ح17491 عن الكافي والتهذيب.
- وفي مرآة العقول 19: 155 ح2 عن الكافي.
- وفي ملاذ الأخيار 11: 267 ح10 عن التهذيب.
(الصفحة 261)
وفي السند محمّد بن سنان، ونفى البُعد عن وثاقته الإمام الماتن (قدس سره) في كتابه في البيع(1) في هذه المسألة .
نعم ، مع الإجبار على أصل البيع لو لم يعيّن القيمة بوجه عيّنها الحاكم بما يراه، ولا محالة يراعى عدم الإجحاف كما هو ظاهر .
- (1) كتاب البيع للإمام الخميني(رحمه الله) 3: 603.
(الصفحة 262)الدخول فى الولايات من قبل الجائر و بعض فروعاته
مسألة 24 : لا يجوز مع الاختيار الدخول في الولايات والمناصب والأشغال من قبل الجائر وإن كان أصل الشغل مشروعاً مع قطع النظر عن تولّيه من قبله، كجباية الخراج، وجمع الزكاة، وتولّي المناصب الجنديّة والأمنيّة، وحكومة البلاد ونحو ذلك ، فضلاً عمّا كان غير مشروع في نفسه; كأخذ العشور والمكوس، وغير ذلك من أنواع الظلم المبتدعة .
نعم ، يسوغ كلّ ذلك مع الجبر والإكراه بإلزام من يُخشى من التخلّف عن إلزامه على نفسه، أو عرضه، أو ماله المعتدّ به، إلاّ في الدماء المحترمة ، بل في إطلاقه بالنسبة إلى تولّي بعض أنواع الظلم ـ كهتك أعراض طائفة من المسلمين، ونهب أموالهم، وسبي نسائهم، وإيقاعهم في الحرج، مع خوفه على عرضه ببعض مراتبه الضعيفة، أو على ماله إذا لم يقع في الحرج، بل مطلقاً في بعضها ـ إشكال بل منع .
ويسوِّغ خصوص القسم الأوّل ـ وهو الدخول في الولاية على أمر مشروع في نفسه ـ القيام بمصالح المسلمين وإخوانه في الدِّين ، بل لو كان دخوله فيها بقصد الإحسان إلى المؤمنين، ودفع الضرر عنهم كان راجحاً ، بل ربما بلغ الدخول في بعض المناصب والأشغال لبعض الأشخاص أحياناً إلى حدّ الوجوب ، كما إذا تمكّن شخص بسببه من دفع مفسدة دينيّة، أو المنع عن بعض المنكرات الشرعيّة مثلاً، ومع ذلك فيها خطرات كثيرة إلاّ لمن عصمه الله تعالى1.
1 ـ وقع التعرّض في هذه المسألة للدخول في الولايات والمناصب والأشغال من قبل الجائر ، وفيه فروض :
(الصفحة 263)
الأوّل : الدخول فيها وإن كان أصل الشغل مشروعاً في نفسه مع قطع النظر عن تولّيه من قبله، كالأمثلة المذكورة في المتن ، وقد حكم فيه في المتن بعدم الجواز وثبوت الحرمة .
ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ظاهراً(1)، وإلى رواية تحف العقول المفصّلة المتقدّمة التي حكمنا باعتبار سندها(2)، المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه ، فلذلك حرُم العمل معهم، ومعونتهم، والكسب معهم، إلاّ بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدّم والميتة(3).
فإنّ مقتضى إطلاقه حرمة ولاية والي الجائر وإن لم تكن الولاية إلاّ في عمل مشروع; لاقتضاء طبع ولايته الاُمور المذكورة لأجل كونه جائراً، كما هو المفروض .
ومضافاً إلى إطلاق بعض الروايات المتقدِّمة في مسألة معونة الظالمين(4) روايات مستفيضة بل متواترة ، مثل :
صحيحة محمّد بن مسلم قال : كنّا عند أبي جعفر (عليه السلام) على باب داره بالمدينة،
- (1) منتهى المطلب 2: 1024، الطبعة الحجريّة، الحدائق الناضرة 18: 134، رياض المسائل 8 : 106، جواهر الكلام 22: 156، مصباح الفقاهة 1: 668.
- (2) في ص 11 ـ 15.
- (3) تحف العقول: 332، وعنه وسائل الشيعة 17: 84 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2 قطعة من ح1 وبحار الأنوار 103: 45 قطعة من ح11، وفيهما وفي المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 69 «دروس» بدل دوس.
- (4) في ص190 ـ 197.