(الصفحة 23)
جواز بيع العذرة حسنة يجوز الاعتماد عليها، فلا يبقى حينئذ وجه لما أفاده من عدم جواز التكسّب ولو كانت لها منفعة محلّلة مقصودة .
ومنها : ما ورد في الميتة، مثل رواية البزنطي، عن الرضا (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع ؟ قال : نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها(1) .
ومن الواضح أنّ الألية المقطوعة من الحيّ بحكم الميتة، فتدلّ الرواية على عدم جواز بيعها في فرض النجاسة كميتة الغنم أو ما هو بحكمها، كما تدلّ على عدم جواز أكلها وحرمته، وهي قرينة على كون المراد من حرمة البيع هي الحرمة التكليفيّة لاالوضعيّة .
ورواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال : لا، ولو لبسها فلا يصلِّ فيها(2) ; بناءً على كون المنهي جميع الاُمور المذكورة في السؤال لاخصوص اللبس، وليس النهي عن الصلاة فيها في صورة اللبس قرينة على اختصاص النهي به وغير شامل للبيع، كما لا يخفى .
هذا، مضافاً إلى دلالة رواية تحف العقول على ذلك وإن ناقشنا في دلالة الآيتين نظراً إلى الانصراف إلى الأكل كما مرّ(3) .
- (1) قرب الإسناد : 268 ح1066، مستطرفات السرائر: 55 ح8 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب6 ح6، وفي بحار الأنوار 80 : 77 ح5 عن قرب الإسناد.
- (2) قرب الإسناد: 268 ح1067، مسائل عليّ بن جعفر (عليه السلام) : 139 ح151، وعنهما وسائل الشيعة 17: 96، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب5 ح17 وفي بحار الأنوار 103: 71 ح8 عن قرب الإسناد.
- (3) في ص: 10 ـ 11.
(الصفحة 24)
وفي مقابلها رواية محمّد بن عيسى بن عبيد، عن أبي القاسم الصيقل وولده قال: كتبوا إلى الرجل (عليه السلام) : جعلنا الله فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولاتجارة غيرها ونحن مضطرّون إليها، وإنّما علاجنا جلود الميتة والبغال والحمير الأهليّة لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا، ونحن نصلّي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة ياسيّدنا لضرورتنا ؟ فكتب (عليه السلام) : اجعل ثوباً للصلاة، إلى آخر الحديث(1) .
وقد استشكل شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) على الاستدلال بالرواية للجواز بما لفظه : ويمكن أن يقال: إنّ مورد السؤال عمل السيوف وبيعها وشراؤها لاخصوص الغلاف مستقلاًّ، ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف، وهو لاينافي عدم جواز معاوضته بالمال ـ إلى أن قال :ـ مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلاّ من حيث التقرير الغير الظاهر في الرِّضا، خصوصاً في المكاتبات المحتملة للتقيّة(2) .
وأجاب عنه بعض الأعلام (قدس سره) على ما في تقريراته بما يرجع إلى أنّ هذا من الغرائب; لأنّ منشأه حسبان أنّ الضمائر في قول السائل: «فيحلّ لنا عملها وشراؤها ومسّها بأيدينا» إلى السيوف، ولكنّه فاسد; فإنّه لا وجه لأن يشتري السيّاف سيوفاً من غيره ، كما لا وجه لسؤاله عن مسّها، وإصراره بالجواب عن كلّ ما سأله ، بل هذه الضمائر ترجع إلى جلود الحمر والبغال المفروض في السؤال ، ومن
- (1) تهذيب الأحكام 6: 376 ح1100، وعنه وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب38 ح4.
- (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 32 ـ 33.
(الصفحة 25)
المستبعد جدّاً بل من المستحيل عادةً أن يجدوا جلود الميتة من الحمير والبغال بمقدار يكون وافياً بشغلهم بلا شرائها من الغير .
وأمّا ما أفاده من التقيّة في المكاتبات، فهي وإن كانت كثيرة لكونها معرضاً لها من جهة البقاء، ولكنّها في خصوص هذه الرواية غير محتملة; لورودها على غير جهة التقيّة; لذهاب أهل السنّة بأجمعهم إلى بطلان بيع الميتة. والتشكيك في كاشفيّة التقرير عن الرضا، وفي كونه من الحجج الشرعيّة، مع أنّها كسائر الأمارات مشمول لأدلّة الحجّية. ورمي الرواية بالتقيّة نظراً إلى ذهاب العامّة إلى جواز بيع جلود الميتة بعد الدبغ لطهارتها به ، وأمّا قبل الدبغ فلا تصلح للأغماد، يدفعه أنّ أمر الإمام (عليه السلام) بأن يجعلوا ثوباً لصلاتهم على خلاف التقيّة والجهات الاُخر، وذكر في الذيل أنّ الرواية ضعيفة السند فلا تقاوم الروايات المانعة(1) .
وقال سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) في كتابه في المكاسب المحرّمة ما محصّله: أنّ الرواية صحيحة ولا يضرّ بها جهالة أبي القاسم; لأنّ الراوي للكتابة والجواب هو محمّد بن عيسى، وقوله : قال: كتبوا; أي قال محمّد بن عيسى: كتب الصيقل وولده، فهو مخبر لا الصيقل وولده، وإلاّ لقال: كتبنا. واحتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدّاً، سيّما مع قوله في ذيلها : وكتب إليه ، فلو كان الراوي الصيقل لقال: كتبت إليه.
وليس في السند من يتأمّل فيه إلاّ أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد ومحمّد بن عيسى بن عبيد، وهما ثقتان على الأقوى، والمظنون لولا المقطوع به أنّ قوله: «نعمل السيوف» مصحّف عن قوله: نغمد السيوف; فإنّهما شبيهتان في الكتابة.
والشاهد عليه أوّلاً: رواية قاسم الصيقل، الظاهر أنّه ابن أبي القاسم قال : كتبت
- (1) مصباح الفقاهة 1: 122 ـ 124.
(الصفحة 26)
إلى الرضا (عليه السلام) : إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي، فأُصلّي فيها؟ فكتب إليّ : اتّخذ ثوباً لصلاتك ، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : كنت كتبت إلى أبيك (عليه السلام) بكذا وكذا، فصعب عليَّ ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ، فكتب إليّ: كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله، فإن كان ماتعمل وحشيّاً ذكيّاً فلا بأس(1) .
فإنّ الظاهر أنّ المكاتبة المشار إليها في هذه الرواية هي المكاتبة المتقدِّمة، حيث كان ولد أبي القاسم من جملة المكاتبين، واحتمال كون قاسم الصيقل غير ابن أبي القاسم الصيقل بعيد .
وثانياً: أنّ عمل السيوف سواء كان بمعنى صنعتها، أو بمعنى تصقيلها عمل مستقلّ، وهو غير عمل تغميدها الذي كان مبائناً لهما، ومن البعيد قيام شخص واحد بعمل السيوف والأغماد، فلا شبهة حينئذ في أنّ أبا القاسم وولده بحسب هذه الرواية كان عملهم أغماد السيوف، وإنّما سألوا عن بيع الميتة وشرائها وعملها ومسّها، والحمل على بيع السيوف كما صنع الشيخ الأنصاري(2) طرح للرواية الصحيحة الصريحة ، انتهى موضع الحاجة .
إلى أن قال في آخر كلامه : والإنصاف أنّ الرواية ظاهرة الدلالة على جواز بيع جلد الميتة وشرائه وسائر الاستفادات منه ، بل يظهر من ذيل الثانية، أي قوله (عليه السلام) : «كلّ أعمال البرّ بالصبر» أنّ الأرجح ترك العمل بالميتة، فيكون شاهد جمع بينها، وبين ما دلّت على أنّ الميتة لا ينتفع بها، أو جلد الميتة لا ينتفع به، وهو الحمل على
- (1) الكافي 3: 407 ح16، تهذيب الأحكام 2: 358 ح1483، وعنهما وسائل الشيعة 3: 462، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب34 ح4.
- (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 32.
(الصفحة 27)
الكراهة فيما لا محذور في الانتفاع بها ، مع أنّها أخصّ مطلقاً من روايات المنع مطلقاً، إلى آخره (1).
والظاهر أنّ مراده أنّ القاسم المذكور في الرواية هو الذي كان شريكاً مع أبيه ـ المكنّى بأبي القاسم ـ في الكتابة إلى الرجل الذي يكون المقصود منه هو الرضا (عليه السلام) بقرينة هذه الرواية، فيكون المراد أنّ القاسم وأباه قد اشتركا في الكتابة إلى الرِّضا (عليه السلام) ، واختصّ الابن بالكتابة إلى الجواد (عليه السلام) ، ولم يظهر لي وجه ما استظهره من ذيل الرواية الثانية ـ وهو قوله (عليه السلام) : «كلّ أعمال البرّ بالصبر» من أنّ الأرجح ترك العمل بالميتة ـ حتّى يكون شاهد جمع بين الروايات المانعة ودليل الجواز، بالحمل على الكراهة; فإنّ الصبر على أقسام :
صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على النائبة ، ومن الواضح أنّ الصبر في مقابل الواجبات وكذا في مقابل المعاصي واجب .
وعليه: فالرواية تدلّ على جواز بيع جلود الميتة للأغماد، كما حكي عن الفاضلين في مختصر الشرائع وإرشاد الأذهان(2) من جواز الاستقاء بجلود الميتة للزراعة، ولازمه جواز المعاوضة عليها لذلك. وإن كانت استفادة الكراهة من القضيّة المفهوميّة في آخر الرواية الدالّة على ثبوت البأس فيما إذا كان عمله من جلود الحمر غير الوحشيّة الذكيّة ، فيرد عليه: عدم ثبوت المفهوم عنده (قدس سره) مطلقاً ولو للقضيّة الشرطيّة، مع أنّ ثبوت البأس لا ظهور فيه في الكراهة حتّى يكون شاهد جمع في المقام .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 74 ـ 75.
- (2) المختصر النافع: 366، إرشاد الأذهان 2: 113.