(الصفحة 9)
هذا، وأمّا النهي التحريمي المتعلّق بالعبادة فلا يكاد يجتمع مع صحّة العبادة، كالنهي عن صوم يوم العيدين; ضرورة أنّ النهي يدلّ على المبغوضيّة وكون الصوم يوم العيدين مبعّداً ومبغوضاً، وهو لا يتلائم مع قصد التقرّب المعتبر في صحّة العبادة، بخلاف مادّة الاجتماع في اجتماع الأمر والنهي، كالصلاة في الدار المغصوبة; فإنّ التحقيق هناك مغايرة متعلّق الأمر مع متعلّق النهي وإن وقع بينهما الاتّحاد في الخارج، وفي الحقيقة لم يتعلّق النهي هناك بالعبادة ، بل بعنوان آخر .
وهذا بخلاف صوم يوم العيدين; فإنّ النهي قد تعلّق بعنوان العبادة، وليس النهي راجعاً إلى حرمة التشريع.
ضرورة أنّ الصائم أحد اليومين يستحقّ العقوبة من حيث نفس الصوم لا من حيث التشريع ، مع أنّه ربما يقال بعدم إمكانه من حيث هو، فكونه عبادة منهيّاً عنها ترجع إلى أنّها لو كانت مأموراً بها ولو على سبيل الاستحباب لكان قصد القربة معتبراً في صحّتها ، مع أنّه لو كان بنحو التشريع لم يلزم أن يكون بصورة النهي، ولم يستحقّ العقاب إلاّ على التشريع، لا على الصوم في المثال المذكور. فانقدح إمكان اجتماع العبادة مع الحرمة التكليفيّة غير التشريعيّة وإن لم تكن صحيحة .
أمّا من جهة الحكم التكليفي، فمن الأدلّة المهمّة في هذا الباب ـ وإن لم تكن
عامّة لجميع الموارد قوله ـ تعالى ـ : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِى وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ
إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}(1) إلى آخر الآية الشريفة ; نظراً إلى أنّ الحرمة لا يمكن أن تتعلّق بالأعيان; لأنّ موضوع التكاليف الخمسة هو فعل المكلّف وعمله، فلا محالة يكون
(الصفحة 10)
متعلّق الحرمة هو جميع الانتفاعات بهذه الأشياء، ومن جملتها التكسّب بها والتجارة عليها .
هذا، ولكن ربما يقال ـ بعد وضوح أنّ الحرمة في الآية هي الحرمة التكليفيّة ـ إنّ النظر في الآية الكريمة إنّما هو إلى الأكل والشرب ; لأنّهما المتعارفان بالإضافة إلى تلك الأشياء ، فلا دلالة لها على حرمة التكسّب بها لبعض الانتفاعات المحلّلة، كاشتراء الميتة لأن يأكلها كلبه المتعلّق به، أو للدفن في أرض البستان لتقوية النباتات ، وقد شاع في زماننا هذا المؤسّسات المبنية على إهداء الدم وبيعه وشرائه للمرضى المحتاجين إليه وتزريقه للمعالجة . وما يمكن أن يقال من أنّ حذف المتعلّق قرينة على العموم، فهو على تقدير صحّته إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك انصراف إلى بعض التصرّفات، أفترى أنّه يستفاد من الآية حرمة النظر إلى الاُمور المذكورة فيها أو النقل المكاني مثلاً ; فهذا دليل على الانصراف; كالتحريم المتعلّق بالاُمّهات والبنات، كما لايخفى.
ومثل الآية المتقدّمة في عدم الدلالة قوله ـ تعالى ـ في أواخر سورة البقرة : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنزِيرِ}(1) إلى آخره .
وأمّا قوله ـ تعالى ـ : {وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(2) الدالّ على وجوب الهجرة المطلقة عن الرجز، فتماميّة دلالته متوقّفة على أن يكون المراد بـ «الرُّجز» بالضمّ هي النجس الفقهي في مقابل الطاهر، مع أنّ المراد به كما يظهر من التفاسير(3) هو صنم خاصّ ، فالرجسيّة من هذه الجهة . وعليه: فالآية لا دلالة لها على حكم المقام .
- (1) سورة البقرة 2: 173.
- (2) سورة المدّثّر 74: 5.
- (3) مجمع البيان 10: 153، الجامع لأحكام القرآن 19: 66.
(الصفحة 11)
وقوله ـ تعالى ـ : {وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(1) لا يكون قرينة على أنّ المراد بـ «الرُّجز» هي النجاسة; لأنّ الثياب كناية عن نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو مطلق أقربائه ، والتطهير يراد به إزالة وسخ الشرك عنهم; كما كان هو الرائج بينهم في زمان نزول الآية التي هي أوّل آية نزلت على النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو ثانيتها ، فتدبّر .
ومن الأدلّة العامّة رواية تحف العقول المفصّلة المشتملة على قوله (عليه السلام) : وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه (لبسه ظ) أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد; نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام ومحرّم ; لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وإمساكه والتقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام(2) . وهي ظاهرة بل صريحة في الحرمة التكليفيّة، خصوصاً بلحاظ قوله (عليه السلام) : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام».
ولا يقدح في جواز التمسّك به للمدّعى ما ذكرنا من قيام الإجماع أو الضرورة على جواز التقلّب المكاني بالإضافة إلى مثل الميتة خوفاً من التعفّن ونحوه ; لأنّ العامّ المخصَّص حجّة فيما عدى مورد التخصيص، كما قد حقّق في محلّه من علم الاُصول(3)، بخلاف ما ذكرنا من أنّ مثل جواز النقل المذكور دليل على أنّ المحرّم في
- (1) سورة المدّثّر 74: 4.
- (2) تحف العقول: 333، وعنه وسائل الشيعة 17: 84 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2 قطعة من ح1، وبحار الأنوار 103: 46 قطعة من ح11.
- (3) سيرى كامل در اصول فقه 8 : 59 ـ 108 .
(الصفحة 12)
الآيات على ما تقدّم هو ليس جميع التصرّفات المتعلّقة بهذه الاُمور، بل المحرّم هو المنصرف إليه من التصرّف المناسب له، مثل الأكل والشرب وغيرهما .
وبالجملة: فرق بين التخصيص الذي يجري فيه القاعدة المزبورة ، وبين استكشاف متعلّق الحرمة في صورة تعلّقها بالذوات، كما لايخفى .
ثمّ إنّ بعض الأعلام (قدس سره) بعد الحكم بضعف سند الرواية المذكورة من جهة الإرسال قال : وربما يتوهّم انجبار ضعفها بعمل المشهور ; إلاّ أنّه مدفوع; لكونه فاسداً كبرى وصغرى . أمّا الوجه في منع الكبرى، فهو مبنيّ على مبناه من عدم كون الشهرة جابرة لضعف السند . وأمّا الوجه في منع الصغرى، فهو عدم ثبوت عمل المتقدّمين بها . وأمّا عمل المتأخّرين، فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها، مضافاً إلى أنّ استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدّاً ; فإنّ المظنون بل الموثوق به هو اعتمادهم في الفتيا على غيرها، وإنّما ذكروها في بعض الموارد تأييداً للمرام .
ودعوى أنّ آثار الصدق منها ظاهرة ، مندفعة بأنّ هذه الآثار هل هي غموض الرواية واضطرابها، أم تكرار جملها وألفاظها، أم كثرة ضمائرها وتعقيدها، أم اشتمالها على أحكام لم يفت بها أحد من الأصحاب ومن أهل السنّة، كحرمة بيع جلود السباع والانتقاع بها وإمساكها، مع أنّ الروايات المعتبرة(1) إنّما تمنع عن الصلاة فيها فقط لا مطلق الانتفاع(2) ، انتهى .
والظاهر أنّه ناظر في ذيل كلامه إلى السيّد الطباطبائي المرحوم في حاشية المكاسب للشيخ الأنصاري (قدس سره) ، حيث إنّه نفى البأس عن العمل بالرواية; لأنّ
- (1) وسائل الشيعة 4: 354 ، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب6.
- (2) مصباح الفقاهة 1: 19 ـ 22.
(الصفحة 13)
مضامينها مطابقة للقواعد، ومع ذلك فيها أمارات الصدق(1) .
أقول : هنا جهات ينبغي بل يجب الالتفات إليها :
الاُولى : أنّه قد مرّ منّا مكرّراً أنّ الشهرة الفتوائيّة المحقّقة قابلة وصالحة لجبر ضعف الرواية من أيّ جهة كانت، كما أنّها قادحة، وإعراض المشهور يمنع عن اعتبار الرواية ولو كانت من الصحّة في الدرجة العالية، ومن الاعتبار في المرتبة المتعالية.
الثانية : أنّه قد مرّ منّا مكرّراً أيضاً تبعاً لسيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) أنّ الإرسال على قسمين : قسم يسند الراوي المرسل ـ كالصدوق ـ الرواية إلى شخص الإمام (عليه السلام) ، كما نلاحظه في عدّة من مراسيله ، وقسم يسنده إلى الرواية والحكاية; كقوله : روي عن الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) كذا وكذا ، ولايبعد أن يقال بحجّية المرسلة بالنحو الأوّل; لأنّه بمنزلة توثيق مثل الصدوق جميع الوسائط بينه وبين الإمام (عليه السلام) ، وهو لا يقصر عن توثيق مثل الكشي والنجاشي، ورواية تحف العقول من هذا القبيل، خصوصاً مع أنّ مصنّفه أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني أو الحلبي، كان رجلاً وجيهاً فاضلاً جليل القدر، رفيع الشأن عظيم المنزلة.
وقد عبّر عن كتابه هذا صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة، المتبحّر في مؤلّفات الشيعة وتصانيفهم، بأنّ كتابه ممّا لم يسمح الدهر بمثله(2) ، وكذا السيّد حسن الصدر صاحب كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، حيث عبّر عنه بأنّه كتاب جليل لم يصنّف مثله(3) ، ومع هذه الخصوصيّة هل يمكن رفع اليد عن هذا الكتاب والإعراض عن رواياته؟ خصوصاً مع قوله في مقدّمته : وأسقطت الأسانيد تخفيفاً
- (1) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 34.
- (2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3: 400.
- (3) تأسيس الشيعة: 413.