(الصفحة 213)
الدليل عليه هو ادّعاء الضرورة من مثل فخر المحقّقين في الإيضاح(1) وظاهر الشهيد في محكي الدروس (2); نظراً إلى أنّ ادّعاء الضرورة ليس مثل نقل الإجماع في عدم الحجّية والاعتبار ، بل يكشف عن ثبوت الاتّفاق عليه، كما أفاده الشيخ المزبور(3)، خصوصاً مع التصريح بأنّ مستحلّه كافر ، لكنّ اللازم الاقتصار على القدر المتيقّن; لكونه من الأدلّة اللبّية كما لايخفى .
ثمّ إنّه ذكر في المتن قوله : «بل يلحق به ـ أو يكون منه ـ الشعبذة; وهي إراءة غير الواقع واقعاً بسبب الحركة السريعة» .
أقول : الشعبذة كالشعوذة زنةً ومعنى، كما عن جماعة من أكابر اللغويين(4)، وهي إعمال في العين ترى الشيء بغير ما هو عليه ، وهي التي يُعبّر عنها في الفارسية بـ «تردستى و چشم بندى»، وقد وقع الترديد في المتن بين كونها ملحقة بالسحر حكماً; أي من جهة الحرمة، وبين كونها من أفراده ومصاديقه ; نظراً إلى ما عرفت من رؤية العين معها الشيء على غير ما هو عليه. فإن كانت من مصاديق السحر وأفراده تدلّ على حرمتها الإطلاقات الواردة في السحر، وإن أشرنا إلى عدم ترتّب بعض أحكام السحر كحدّ القتل عليها جزماً، وإن لم نقل بذلك بل باللحوق الحكمي فقط يحتاج الحكم بذلك إلى قيام الدليل عليه ، والمفروض عدم وجود دعوى الضرورة فيها، كاستخدام الملائكة واستنزال الشياطين على ما مرّ .
ومنها : الكهانة; وهي كما في المتن تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل
- (1) إيضاح الفوائد 1: 405.
- (2) الدروس الشرعيّة 3: 164.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 265 ـ 266.
- (4) المعجم الوسيط: 484 و 486، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة 2: 339.
(الصفحة 214)
الزمان بزعم أنّه يلقي إليه الأخبار عنها بعض الجانّ، أو بزعم أنّه يعرف الاُمور بمقدّمات وأسباب يستدلّ بها على مواقعها .
قلت : لا بأس بنقل الرواية التي رواها الشيخ الأعظم(1) عن احتجاج الطبرسي للاطّلاع على بعض خصوصيّات الكهانة وإن كانت الرواية غير معتبرة في نفسها .
فنقول : روى الطبرسي في الاحتجاج في جملة الأسئلة التي سأل الزنديق عنها أبا عبدالله (عليه السلام) :
قال الزنديق : فمن أين أصل الكهانة، ومن أين يخبر الناس بما بحدث؟
قال (عليه السلام) : إنّ الكهانة كانت في الجاهليّة في كلّ حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الاُمور بينهم، فيخبرهم عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتّى: فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفطنة الروح مع قذف في قلبه; لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة ، فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.
وأمّا أخبار السماء; فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم، وإنّما مُنعت من استراق السمع لئلاّ يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ـ تعالى ـ لإثبات الحجّة ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيختلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به، فهو ما أدّاه إليه شيطانه ممّا
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 34 ـ 36.
(الصفحة 215)
سمعه، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة .
واليوم إنّما تؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس ممّا يتحدّثون به، وما يحدّثونه، والشياطين تؤدّي إلى الشياطين ما يحدث في البُعد من الحوادث: من سارق سرق، ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة الناس أيضاً، صدوق وكذوب إلى آخر الخبر(1) .
وفي الرواية اُمور قابلة للملاحظة والدقّة :
أحدها : قوله (عليه السلام) : «مع قذف في قلبه»، وقد احتمل الشيخ (قدس سره) أن يكون قيداً للأخير، وأن يكون قيداً للجميع .
ثانيها : أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «انقطعت الكهانة» هي الكهانة الكاملة المتضمّنة لأخبار السماء ، وإلاّ فأصل الكهانة فلم تنقطع .
ثالثها : أنّ أخبار الشياطين بالاُمور المستقبلة الأرضيّة مع عدم تحقّقها بعد، من أيّ طريق يكون ويحصل .
وكيف كان، فالبحث في الكهانة تارةً: من جهة أنّها فعل الكاهن وعمله ، فالكلام يقع في جوازه وعدمه ، واُخرى: من جهة الرجوع إلى الكاهن وتصديقه فيما يقول، وترتيب الأثر الشرعي على قوله . وعلى أيّ تقدير فالبحث تارةً: من جهة مقتضى القواعد، واُخرى: من جهة الروايات الواردة.
فنقول:
أمّا من جهة القاعدة، فالظاهر أنّ جواز إخباره على سبيل الجزم والبتّ إنّما
- (1) الاحتجاج 2: 218 ـ 219، وعنه بحار الأنوار 10: 168 قطعة من ح2 وج63: 76 ح30.
(الصفحة 216)
ينحصر بما إذا كان عالماً به وقاطعاً بوقوعه، سيّما بالإضافة إلى الاُمور المستقبلة التي عرفت أنّ اطّلاع الشياطين عليها غير معلوم الوجه . وأمّا لو لم يتحقّق له القطع به من أيّ سبب، فلايجوز له الإخبار بالكيفيّة المذكورة ; لأنّه من الظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً(1) ، فالتعويل في جواز الإخبار على الظنّ الذي لم يقم على اعتباره دليل غير جائز .
وأمّا تصديقه فيما يقول، فلايجوز مطلقاً وإن كان العلم حاصلاً للكاهن; لاختصاص حجّية القطع بالقاطع دون غيره، فإذا أخبر الكاهن بأنّ المال الذي سرق من زيد قد سرقه عمرو، ولم يكن دليل على ذلك من بيّنة ونحوها، فلايجوز لزيد التقاصّ من مال عمرو، وترتيب الأثر العملي على قول الكاهن وإن كان قاطعاً بذلك .
وأمّا من جهة الروايات، فما ورد فيها عبارة عن :
صحيحة الهيثم ـ التي رواها ابن إدريس في مستطرفات السرائر ـ قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيء يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من مشى إلى ساحر، أو كاهن، أو كذّاب يصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب(2) .
والظاهر أنّ استشهاد الإمام (عليه السلام) بقول الرسول(صلى الله عليه وآله) إنّما هو لأجل عدم كون المخبر المذكور خالياً عن واحد من العناوين الثلاثة، وإلاّ فلا وجه للاستشهاد المزبور، خصوصاً مع التقييد بقوله (عليه السلام) : «يصدّقه بما يقول» كما لايخفى .
- (1) اقتباس من سورة يونس 10: 36.
- (2) مستطرفات السرائر: 83 ح22، وعنه وسائل الشيعة 17: 150، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب26 ح3، وبحار الأنوار 2: 308 ح66 وج79: 212 ح11.
(الصفحة 217)
وعليه: فلا وجه لما حكي عن تقريرات بعض الأعلام (قدس سره) من أنّه لا دلالة في الرواية على انحصار المخبر عن الاُمور المغيبة بالكاهن والساحر والكذّاب ، بل الظاهر منها أنّ الأخبار المحرّم منحصر بإخبار هذه الطوائف الثلاث ، فالإمام بين ضابطة حرمة الإخبار عن الغائبات .
ونظيره ما إذا سئل أحد عن حرمة شرب العصير التمري، فأجاب بأنّ الحرام من المشروبات إنّما هو الخمر والنبيذ والعصير العنبي إذا غلا ; فإنّ هذا الجواب لا يدلّ على حصر جميع المشروبات بالمحرّم ، وإنّما يدلّ على حصر المشروبات المحرّمة بالاُمور المذكورة ، وإذن فلا دلالة في الرواية على حرمة مطلق الإخبار(1) .
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ محطّ السؤال في الرواية ليس هو جواز إخبار المخبر وعدمه ، بل جواز الرجوع إليه وتصديقه فيما يقول ـ : أنّك عرفت ظهور الاستشهاد المزبور في عدم خروج المخبر المذكور عن هذه الطوائف الثلاث بعد وضوح عدم كونه نبيّاً ولا وصيّاً .
وعليه: فيمكن الاستدلال بالرواية على عدم جواز الإخبار أيضاً بعد ثبوته في الساحر والكذّاب وكون الكاهن مثلهما ، كما أنّه يمكن الاستدلال بها على عدم جواز الإخبار بالاُمور المستقبلة بطريق أولى ، فتدبّر .
ومنها : رواية أبي بصير ـ التي رواها عنه عليّ بن أبي حمزة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد(صلى الله عليه وآله) .
قال : قلت : فالقيافة (فالقافة خل) قال : ما اُحبّ أن تأتيهم. وقيل: ما يقولون شيئاً إلاّ كان قريباً ممّا يقولون ، فقال : القيافة فضلة في النبوّة ذهبت في الناس حين
- (1) مصباح الفقاهة 1: 643.