(الصفحة 13)
مضامينها مطابقة للقواعد، ومع ذلك فيها أمارات الصدق(1) .
أقول : هنا جهات ينبغي بل يجب الالتفات إليها :
الاُولى : أنّه قد مرّ منّا مكرّراً أنّ الشهرة الفتوائيّة المحقّقة قابلة وصالحة لجبر ضعف الرواية من أيّ جهة كانت، كما أنّها قادحة، وإعراض المشهور يمنع عن اعتبار الرواية ولو كانت من الصحّة في الدرجة العالية، ومن الاعتبار في المرتبة المتعالية.
الثانية : أنّه قد مرّ منّا مكرّراً أيضاً تبعاً لسيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) أنّ الإرسال على قسمين : قسم يسند الراوي المرسل ـ كالصدوق ـ الرواية إلى شخص الإمام (عليه السلام) ، كما نلاحظه في عدّة من مراسيله ، وقسم يسنده إلى الرواية والحكاية; كقوله : روي عن الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) كذا وكذا ، ولايبعد أن يقال بحجّية المرسلة بالنحو الأوّل; لأنّه بمنزلة توثيق مثل الصدوق جميع الوسائط بينه وبين الإمام (عليه السلام) ، وهو لا يقصر عن توثيق مثل الكشي والنجاشي، ورواية تحف العقول من هذا القبيل، خصوصاً مع أنّ مصنّفه أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني أو الحلبي، كان رجلاً وجيهاً فاضلاً جليل القدر، رفيع الشأن عظيم المنزلة.
وقد عبّر عن كتابه هذا صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة، المتبحّر في مؤلّفات الشيعة وتصانيفهم، بأنّ كتابه ممّا لم يسمح الدهر بمثله(2) ، وكذا السيّد حسن الصدر صاحب كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، حيث عبّر عنه بأنّه كتاب جليل لم يصنّف مثله(3) ، ومع هذه الخصوصيّة هل يمكن رفع اليد عن هذا الكتاب والإعراض عن رواياته؟ خصوصاً مع قوله في مقدّمته : وأسقطت الأسانيد تخفيفاً
- (1) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 34.
- (2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3: 400.
- (3) تأسيس الشيعة: 413.
(الصفحة 14)
وإيجازاً وإن كان أكثره لي سماعاً(1) ، إلاّ أن يقال : إنّ الظاهر من الوسائل كون إرسال الرواية بالنحو الثاني لا بالنحو الأوّل; لأنّه ذكر فيها أنّه رواها عن الصادق (عليه السلام) لا أنّه أسندها إليه ، وإن كان يظهر من حاشية الوسائل نقلاً عن تحف العقول في الطبعتين الأوّلتين منه ـ أنّه سأله سائل فقال إلخ(2) ـ النسبة إلى الصادق (عليه السلام) ، كما لايخفى .
الثالثة : أنّه لا يشترط في حجّية خبر الواحد اتّصاف المخبر بالوثاقة ، بل يكفي كونه موثوقاً به ولو لم يكن راويه ثقة، ويدلّ عليه أنّ عمدة الدليل على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء، وهم لا يفرّقون بين الصورتين .
الرابعة : أنّ ملاحظة نفس الكتاب ، بل شخص هذه الرواية التي هي مورد للبحث والكلام تقضي بعدم صلاحيّة غير الإمام (عليه السلام) لصدور هذه الكلمات والحكم والمواعظ والضوابط والقواعد منه ، بل هي مناسبة لشأنه (عليه السلام) .
الخامسة : أنّ الرواية لأجل طولها وتفصيلها يمكن أن لا يتحقّق حفظها من الراوي عنه (عليه السلام) ، فلا يكون ذلك قدحاً فيها وفي اعتبارها، ولأجله حصل فيها القلق والاضطراب والتكرار وبعض الجهات الاُخر .
السادسة : أنّه لا يعتبر في انجبار ضعف الرواية المفصّلة المشتملة على أحكام عديدة وضوابط متكثّرة استناد المشهور إلى جميع فقراتها والأحكام الواردة فيها ، ومن الممكن أن يكون بعض الفقرات أو بعض موارده غير مفتى به عندهم ، ولا يقدح في اعتبار البقيّة وجواز الاستناد إلى الرواية لأجلها.
- (1) تحف العقول: 3.
- (2) وسائل الشيعة 12: 54، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2، الطبعة الإسلاميّة مع تعليقات للشعراني.
(الصفحة 15)
السابعة: أنّه يجوز في الرواية النقل بالمعنى، كما يجوز النقل باللفظ . وعليه: فيمكن أن يكون عدم تطابقها مع الضوابط الأدبيّة والعربيّة من هذه الجهة، فلايكون وجود القلق والاضطراب أو بعض الجهات الاُخر إلاّ من قبل الراوي لا الإمام (عليه السلام) ، فلا يكشف عن عدم كون أصل الرواية منه (عليه السلام) .
هذه هي الأدلّة العامّة ولو في الجملة الواردة في المقام .
وهنا روايات عامّة اُخرى استدلّ بها على المدّعى ـ وهي الحرمة التكليفيّة للتكسّب بالأعيان النجسة ـ كالروايات المنقولة عن الفقه الرضوي ودعائم الإسلام والجعفريات، لكنّها ـ مضافاً إلى كونها مخدوشة من حيث الدلالة، ولعلّ دلالتها على الحرمة الوضعيّة كان أظهر ـ لا اعتبار بشأنها، ولذا لم ينقل عن شيء منها في الوسائل وإن نقل عنها صاحب المستدرك مثبتاً لاعتبارها، لكنّ الأظهر العدم; لوجوه ليس هاهنا مجال لذكرها، وقد ذكرنا مراراً عدم اعتبار الفقه الرضوي، وأشير هاهنا إلى ما هو العمدة في ذلك، وهو أمران :
أحدهما: أنّه لم يكن بناء الأئمّة (عليهم السلام) على تأليف كتاب في الفقه، ولعلّه لأجل أنّه لو ألّفوا في الفقه لكان ذلك التأليف منعدماً بأيدي الأعداء والخلفاء ، وقد سمعت من سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) ـ في جواب من سأله عن أنّه لِمَ لم يذكر اسم عليّ (عليه السلام) وولايته في الكتاب العزيز ـ أنّه قال : لو ذكر في القرآن اسم عليّ (عليه السلام) لما كان من البعيد أن يتصدّوا أعداء عليّ (عليه السلام) لإمحاء القرآن كما يؤيّده القرائن .
ويؤيّد المقام أنّه لو كان البناء على التأليف لكان الصادقان(عليهما السلام) أولى بذلك زماناً، خصوصاً مع اقتضاء التقيّة عدم الرجوع إلى شخصهما .
ثانيهما : عدم إشارة الأئمّة المتأخّرة عن الرضا (عليهم السلام) بوجود هذا التأليف منه في شيء من الموارد على ما يعلم مع اقتضاء القاعدة ذلك، وثبوت عنوان ابن الرضا
(الصفحة 16)
بالإضافة إليهم .
وما في كلام الإمام الماتن (قدس سره) في المكاسب المحرّمة من احتمال إلغاء الخصوصيّة من الموارد الخاصّة(1) فمستبعد جدّاً.
وأمّا الأدلّة الخاصّة، فمنها : ما ورد في العذرة، مثل:
موثّقة سماعة بن مهران قال : سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال : إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال : حرام بيعها وثمنها . وقال : لا بأس ببيع العذرة(2) .
ويحتمل أن يكون ذيل الرواية رواية مستقلّة صدرت في مورد آخر جمعهما الراوي ـ وهو سماعة ـ في كلام واحد ، ويؤيّده الإتيان بالاسم الظاهر فيه دون الضمير مع الإتيان به في قوله: «حرام بيعها وثمنها» ، كما لايخفى .
وكيف كان، فقد ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن (قدس سره) ما ملخّصه: أنّه لا يبعد أن يقال في مقام الجمع: إنّ المراد بـ «حرام بيعها وثمنها» الجامع بين الوضعي والتكليفي ، وبقوله (عليه السلام) : «لا بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفيّة، وفي المقام لولا قوله (عليه السلام) : «ولا بأس...» يكون الظاهر من قوله (عليه السلام) : «حرام . . .» التكليفيّة; لعدم معنى للوضعيّة بالنسبة إلى الثمن إلاّ بتكلّف بعيد، والحمل على الجامع خلاف الظاهر، والحمل على التكليفيّة بالنسبة إلى البيع وإن كان خلاف الظاهر أيضاً، لكنّه أرجح من الحمل على الجامع ، لكن قوله (عليه السلام) : «لا بأس ببيع العذرة» قرينة على أنّ المراد من الحرمة المعنى الأعمّ، سيّما إذا كانت تلك الفقرة في ذيل الاُولى، فكأنّه قال : يحرم بيعها وضعاً ولا بأس به تكليفاً .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 9.
- (2) تهذيب الأحكام 6: 372 ح1081، الاستبصار 3: 56 ح183، وعنهما وسائل الشيعة 17: 175 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح2.
(الصفحة 17)
قال : وما ذكرناه وإن لا يخلو من التكلّف ، لكنّه أرجح من سائر ما قيل في وجه الجمع، بل لايبعد أن يكون مقبولاً مع ملاحظة أنّ في الشريعة بيعاً لا بأس به بعنوانه، وما هو حرام كذلك مع بطلانهما «تأمّل». فتدلّ على عدم حرمة بيعها ذاتاً وإن كان باطلاً، وأنّ مساقها ليس مساق الخمر الحرام بيعها بعنوانه على ما هو ظاهر جملة من الروايات الآتية(1) .
أقول : الظاهر أنّه مع التصريح بحرمة البيع الظاهرة في الحرمة التكليفيّة لا يبقى مجال لنفي البأس عن المنع المذكور الظاهر في الجواز التكليفي . نعم، لو لم يقع التصريح بذلك لكان مقتضى الجمع الدلالي ـ المقبول عند العقلاء، الموجب للخروج عن عنوان التعارض والاختلاف ـ حمل الاُولى على الوضعيّة، والثانية على التكليفيّة، ولم يكن حينئذ تعارض في المتن ، كما هو مقتضى الجمع بين الروايتين الآخرتين الواردتين في المقام :
إحداهما : رواية يعقوب بن شعيب الدالّة على أنّ ثمن العذرة من السحت(2) .
ثانيتهما : رواية محمّد بن المضارب الدالّة على أنّه لا بأس ببيع العذرة(3) ، ولكن حكي(4) عن الأصحاب قديماً وحديثاً الجمع بينهما بوجوه اُخر .
منها : ما عن الشيخ الطوسي (قدس سره) من الجمع بين الطائفتين بحمل رواية المنع على
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 13 ـ 14.
- (2) تهذيب الأحكام 6: 372 ح1080، الاستبصار 3: 56 ح182 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح1.
- (3) الكافي 5: 226 ح3، تهذيب الأحكام 6: 372 ح1079، الاستبصار 3: 56 ح181 ، وعنها وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب40 ح3.
- (4) الحاكي هو السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة 1: 81 ـ 90.