(الصفحة 66)
خلاف ظاهر الرواية .
وربما يناقش في الإرشاد الذي ذكرناه(1) بما هو ببالي من سابق الزمان ـ وإن كان يحتمل أن يكون من الغير ـ من إمكان الوضوء بالمائين المشتبهين، خصوصاً إذا كان كثيراً كالحوضين المشتملين على ما دون الكرّ، وصيرورة أحدهما لا على التعيين متنجّساً بملاقات النجاسة; بأن يتوضّأ بأحدهما ثمّ يطهّر مواضع الوضوء بالماء الآخر ثمّ يتوضّأ بالآخر، فإذا فعل ذلك يعلم بتحقّق الوضوء بالماء الطاهر وإن كان يجري استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة بالنسبة إلى الأعضاء; لأنّ غاية الأمر وقوع التعارض بين الاستصحابين وتساقطهما، والمرجع حينئذ أصالة الطهارة أي قاعدتها ، فالمقام كمجهولي التاريخ من حيث تساقط الأصلين الجاريين فيهما أو عدم جريانه أصلاً، والتحقيق في محلّه .
ويمكن الجواب عن المناقشة بأنّه ـ مضافاً إلى أنّه لا يمكن إجراء ذلك بالإضافة إلى جميع الموارد، لإمكان أن يكون الماءان في غاية القلّة بحيث لا يكون قادراً على ذلك ـ لا إشكال في صعوبة ذلك بل حرجيّته في بعض الموارد، خصوصاً مع كون المفروض في السؤال الإناءين، ولا يكون لهما الظرفيّة إلاّ بمقدار قليل كما هو الغالب . وعليه: فالظاهر أنّ الأمر بالإهراق المذكور لا يكون إلاّ للإرشاد .
ومنها : الروايات الدالّة على إهراق الماء المتنجّس; كصحيحة أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة أو التور فيدخل أصبعه فيه ؟ قال : إن كانت يده قذرة فأهرقه، الحديث(2) ; نظراً إلى أنّ الأمر بالإهراق ظاهر في
- (1) تفصيل الشريعة فى شرح تحرير الوسيلة، أحكام التخلّى و الوضوء: 193 ـ 207.
- (2) تهذيب الأحكام 1: 38 ح103، الاستبصار 1: 20 ح46، مستطرفات السرائر: 27 ح9، وعنها وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب8 ح11، وفي بحارالأنوار 2: 273 ح14 عن التهذيب، وفي ج80 : 17 ح6 عن مستطرفات السرائر.
(الصفحة 67)
عدم جواز الانتفاع بالماء المتنجّس مطلقاً ولو في غير ما هو مشروط بالطهارة .
ويظهرالجواب عن الاستدلال بمثلها مع تعدّدها وكثرتها، من أنّ الأمر بالإهراق إنّما هو للإرشاد إلى اعتبار الطهارة فيما يغتسل به أو يتوضّأ، كما لايخفى .
ومنها : الروايات التي توصف بالاستفاضة عند الخاصّة(1) والعامّة(2) الدالّة على جواز الاستصباح بالدهن المتنجّس ; نظراً إلى ظهورها في انحصار جواز الانتفاع بهابالاستصباح والإسراج، وهوظاهر في عدم جوازالانتفاع بغيره كالتدهين وغيره.
واُورد عليه(3) بأنّ النفع الظاهر للدهن هو الأكل والإسراج، فإذا كان الأوّل حراماً بمقتضى التنجّس لعدم جواز أكل المتنجّس، اختصّ الانتفاع به بالاستصباح والإسراج، على أنّه يظهر من بعض نفس هذه الروايات جواز الانتفاع به في غير الإسراج أيضاً; لعطف كلمة «ونحوه» على الإسراج(4)، أو صراحة بعضها في جواز صرفه في عمل الصابون(5) ونحوهما .
- (1) وسائل الشيعة 17: 97-99، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب6، وج 24: 194-195، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب43، ومستدرك الوسائل 17: 71، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب19.
- (2) السنن الكبرى للبيهقي 14: 374 ـ 375 ح20179 ـ 20183.
- (3) المورد هو السّيد الخوئى فى مصباح الفقاهة 1:221.
- (4) قرب الإسناد : 274 ح1090، مسائل عليّ بن جعفر: 133 ح128 باختلاف، وعنهما وسائل الشيعة 24: 198، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب45 ح2 وبحار الأنوار 80 : 58 ح11.
- (5) الجعفريات:26، النوادرللراوندي: 220 ح445 ، وعنهما مستدرك الوسائل 2: 578 و579، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني ب27 ح2775 وملحق ح2781، وج13: 72 و 73، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب6 ح14781 و 14786، وفي بحارالانوار 66: 52 ملحق ح12 وج80 : 79 ملحق ح7 عن النوادر.
(الصفحة 68)
هذه هي الآيات والروايات التي استدلّ بها على أنّ الأصل في كلّ متنجّس عدم جواز الانتفاع به، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بشيء منها .
وأمّا الإجماع، فالمحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه فاقد للاعتبار كما حقّق في محلّه ، مع أنّه على تقديره يكون بالقطع أو الاطمئنان أو الاحتمال القويّ مستنداً إلى بعض من الآيات والروايات المتقدّمة، فهي الأصل دون الإجماع; لأنّ الملاك هو المستند كما لايخفى ، مع أنّه أفاد الشيخ الأعظم : والذي أظنّ ـ وإن كان الظنّ لايغني لغيري شيئاً ـ أنّ كلمات القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخّرون، وأنّ المراد بالانتفاع في كلمات القدماء: الانتفاعات الراجعة إلى الأكل والشرب، وإطعام الغير، وبيعه على نحو بيع ما يحلّ أكله (1)، انتهى .
ويرد عليه: أنّ الأمر وإن كان كذلك، إلاّ أنّ ظنّه لا يغني لنفسه أيضاً; لأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً(2)، إلاّ أن يريد منه الاطمئنان الذي هو حجّة عقلائيّة، كما مرّ منّا مكرّراً .
إذا عرفت ما ذكرنا من أنّه لا دليل على أنّ الأصل الأوّلي في مطلق المتنجّس هو عدم جواز الانتفاع به، بل مقتضى أصالة الحلّية الجواز، يظهر لك وجه التفصيل بين صور المسألة المذكور في المتن; لأنّه في صورة القابليّة للتطهير، وكذا في صورة عدم توقّف جواز الانتفاع على الطهارة ـ كلبس الثوب النجس في غير حال الصلاة ـ لاوجه للحكم بالعدم; لأنّه في الصورة الاُولى يتحقّق البيع ثمّ يقع التطهير لفرض
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 91.
- (2) سورة يونس 10: 36.
(الصفحة 69)
القابليّة له، وفي الصورة الثانية كما إذا اشترى الثوب النجس للّبس ولو فرض فيه عدم القابليّة فضلاً عن صورة القابليّة .
وأمّا الصورة الأخيرة التي حكم فيها بعدم الجواز كمثال السكنجبين، فالوجه فيه ما ذكرنا(1) من أنّه لا يمكن بقاء السكنجبين بعنوانه مع تحقّق الطهارة له بالاتّصال بالكرّ ونحوه; لتوقّف الطهارة على الامتزاج الموجب للاستهلاك، وقد ذكرنا سابقاً في كتاب الطهارة اعتبار الامتزاج(2) لو اُريد تطهير الماء المتنجّس فضلاً عن مثل السكنجبين، ولأجله ذكرنا فيه أنّه لا يقبل التطهير; لأنّه ما دام كونه كذلك لا يطهر، و في فرض الطهارة يخرج عن العنوان المزبور ، فوجه الفرق بين الصور الثلاثة ظاهر.
هذا كلّه بالإضافة إلى المتنجّس . وأمّا الكلام في نجس العين من حيث أصالة حلّ الانتفاع به في غير ما ثبتت حرمته، أو أصالة العكس. فاعلم أنّه قد استظهر الشيخ الأعظم (قدس سره) من الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين(3)، بل عن صاحب الحدائق نسبة ذلك إلى الأصحاب(4)، بل عن بعض الإجماع على ذلك(5) .
أقول : الأدلّة الواردة في خصوص نجس العين التي يمكن الاستدلال بها في بادئ
- (1) في ص 56.
- (2) تفصيل الشريعة فى شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، المياه: 75 ـ 76 و 175 ـ 177.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 97.
- (4) الحدائق الناضرة 18: 89 .
- (5) الخلاف 6: 91 ـ 92 مسألة 19، غنية النزوع: 213، تذكرة الفقهاء 10: 25 و 31، التنقيح الرائع 2: 5، وحكاه في مفتاح الكرامة 12: 44 ومكاسب الشيخ عنها وعن حاشية الإرشاد لفخر الدِّين، ولكن لم نعثر عليه في الحاشية المطبوعة. نعم، جاء في هامش مفتاح الكرامة: حاشية إرشاد الأذهان في التجارة ص44 س12 (مخطوط في مكتبة المرعشي برقم 2474).
(الصفحة 70)
النظر لهذا القول، هي الآية الدالّة على تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية(1)، وقد عرفت(2) أنّ قوله ـ تعالى ـ : {ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـلـِثَ} وإن كان لا يشمل المتنجّس، إلاّ أنّ المراد هو تحريم الأكل للمقابلة ، ورواية تحف العقول المتقدّمة(3)الدالّة على النهي عن بيع شيء من وجوه النجس; أي العنوانات النجسة مشتملاً على التعليل المتقدّم(4).
وقد مرّ أنّ المستفاد من الآية المذكورة تحريم ما يراد غالباً من تلك العناوين من أكل الميتة وشرب الدم وأكل لحم الخنزير ومثلها، وإلاّ فالانتفاع بالدم بمثل ما هو المتداول في زماننا من تزريقه إلى من يحتاج إلى التزريق من المرضى، أو من عرض له اصطدام مثل السيّارة، فلا يستفاد تحريمه من الآية بوجه ، فلا مجال لأن يقال: إنّ التحريم المتعلّق بالذوات يعمّ جميع الأفعال المرتبطة بها، بل المتفاهم العرفي هو خصوص الفعل المناسب لها، كما أنّ تحريم الاُمّهات والبنات ومثلهما لا يستفاد منه إلاّ تحريم النكاح معهنّ، لا النظر ومثله .
كما أنّ اشتمال رواية تحف العقول على التعليل بقوله (عليه السلام) : «فجميع تقلّبه فى ذلك حرام» لا يدلّ على حرمة الانتفاع بالعناوين النجسة بجميع الانتفاعات، ولوبملاحظة ما قدّمنا من أنّ العلّة المذكورة للأحكام لا تلزم أن تكون ارتكازيّة، بل يمكن أن تكون تعبّدية كما مثّلنا لذلك سابقاً(5) ، خصوصاً مع الاحتمال الذي ذكره
- (1) سورة البقرة 2: 173.
- (2) في ص 59 ـ 60.
- (3) في ص 11.
- (4) في ص11، 32 و 61.
- (5) في ص 61.