(الصفحة 211)
ليحصل فصل الربيع الذي يكون فيه الأخضر، أو بحسب العادة الرائجة في باب الأشجار، فكأنّه يقرّب فصل الربيع ويوجده في فصل الشتاء .
الثاني : أنّ الإتيان بالمعجزة لا يكون إلاّ بإذن الله وإقداره للآتي بالمعجزة ، ولأجله لا يقدر عليه في كلّ حين وزمان شاء ، وهذا بخلاف السحر الذي يأتي به كلّ من يكون عالماً بكيفيّته في كلّ زمان شاء وأراد ، وجميع الاُمور وإن كان مربوطاً بإذن الله، إلاّ أنّ المراد من الإذن فيها هي القدرة التي أعطاها الله تبارك وتعالى {إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا}(1) .
ثمّ إنّ ما ذكرناه في معنى المعجزة يجري في مثل عصا موسى الذي صار ثعباناً كما في الكتاب(2). وفي مثل الأسد المنقوش على الستر الذي صار حيواناً مفترساً بأمر الإمام (عليه السلام) وأكلَ المستهزئ له، وقد تقدّم(3) .
وقد ذكرنا في كتابنا مدخل التفسير الفرق بين المعجزة والسحر، وقد كتبنا هذا الكتاب في سالف الزمان، وقد طبع مرّتين ، فراجع (4).
ثمّ إنّه في المتن بعد عنوان السحر موضوعاً وحكماً قال : «ويلحق بذلك استخدام الملائكة، وإحضار الجنّ وتسخيرهم، وإحضار الأرواح وتسخيرها، وأمثال ذلك ـ».والظاهر أنّ مراده هو اللحوق الحكمي لا الموضوعي بحيث تكون الاُمور المذكورة من مصاديق السحر وأفراده ، بل غاية الأمر جريان حكم السحر عليه من جهة الحرمة وعدم الجواز، لا من حيث الحدّ أيضاً الذي هو القتل كما عرفت .
- (1) سورة الإنسان(الدهر) 76: 3.
- (2) سورة الأعراف 7: 107.
- (3) في ص: 143 - 144.
- (4) مدخل التفسير: 19 ـ 22.
(الصفحة 212)
ويؤيّد بل يدلّ على ما ذكرنا التعبير باللحوق خصوصاً مع ملاحظة الجملة البعديّة التي وقع التعبير فيها بأنّه «يلحق به أو يكون منه»، كما لايخفى .
مضافاً إلى أنّ الاُمور المذكورة كما عرفت في تعريف السحر ليست من الصور التخيّليّة، بل من الاُمور الواقعيّة ; فإنّ استخدام الملائكة أو الجنّ ـ وكذا مثلهما ـ اُمور حقيقيّة، ولكن حكى الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في مكاسبه عن الشهيدين(قدس سرهما) أنّهما عدّا من السحر استخدام الملائكة، واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب، واستحضارهم وتلبيسهم ببدن صبيّ أو امرأة، وكشف الغائبات على لسانه(1) .
كما أنّه حكى عن العلاّمة المجلسي (قدس سره) في البحار، أنّه بعدما نقل عن أهل اللغة «أنّه ما لطف وخفي سببه»: إنّه في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر يخفى سببها (سببه ظ) ويتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، وأنّه ذكر بعد ذلك أنّ السحر على أقسام ثمانية ، ثمّ حكى تلك الأقسام(2)،(3)، مع أنّ جملة منها لا ينطبق عليه عنوان السحر بالمعنى الشرعي الذي ذكره ، ومن الظاهر أنّ المقسم لتلك الأقسام هو السحر الشرعي، وإلاّ كان عليه البيان ، مضافاً إلى أنّ البحث إنّما هو في هذا السحر لا بمعنى آخر .
وكيف كان، فالظاهر أنّ المراد من المتن هو اللحوق من حيث الحكم لا الانطباق من حيث الموضوع . نعم ، الكلام إنّما هو في الدليل على هذا اللحوق، والظاهر أنّ
- (1) الدروس الشرعيّة 3: 164، مسالك الأفهام 3: 128، الروضة البهيّة 3: 214ـ 215.
- (2) بحار الأنوار 59: 277 ـ 297 نقلاً من التفسير الكبير للفخر الرازي 1: 619ـ 625.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 259 ـ 263.
(الصفحة 213)
الدليل عليه هو ادّعاء الضرورة من مثل فخر المحقّقين في الإيضاح(1) وظاهر الشهيد في محكي الدروس (2); نظراً إلى أنّ ادّعاء الضرورة ليس مثل نقل الإجماع في عدم الحجّية والاعتبار ، بل يكشف عن ثبوت الاتّفاق عليه، كما أفاده الشيخ المزبور(3)، خصوصاً مع التصريح بأنّ مستحلّه كافر ، لكنّ اللازم الاقتصار على القدر المتيقّن; لكونه من الأدلّة اللبّية كما لايخفى .
ثمّ إنّه ذكر في المتن قوله : «بل يلحق به ـ أو يكون منه ـ الشعبذة; وهي إراءة غير الواقع واقعاً بسبب الحركة السريعة» .
أقول : الشعبذة كالشعوذة زنةً ومعنى، كما عن جماعة من أكابر اللغويين(4)، وهي إعمال في العين ترى الشيء بغير ما هو عليه ، وهي التي يُعبّر عنها في الفارسية بـ «تردستى و چشم بندى»، وقد وقع الترديد في المتن بين كونها ملحقة بالسحر حكماً; أي من جهة الحرمة، وبين كونها من أفراده ومصاديقه ; نظراً إلى ما عرفت من رؤية العين معها الشيء على غير ما هو عليه. فإن كانت من مصاديق السحر وأفراده تدلّ على حرمتها الإطلاقات الواردة في السحر، وإن أشرنا إلى عدم ترتّب بعض أحكام السحر كحدّ القتل عليها جزماً، وإن لم نقل بذلك بل باللحوق الحكمي فقط يحتاج الحكم بذلك إلى قيام الدليل عليه ، والمفروض عدم وجود دعوى الضرورة فيها، كاستخدام الملائكة واستنزال الشياطين على ما مرّ .
ومنها : الكهانة; وهي كما في المتن تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل
- (1) إيضاح الفوائد 1: 405.
- (2) الدروس الشرعيّة 3: 164.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 265 ـ 266.
- (4) المعجم الوسيط: 484 و 486، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة 2: 339.
(الصفحة 214)
الزمان بزعم أنّه يلقي إليه الأخبار عنها بعض الجانّ، أو بزعم أنّه يعرف الاُمور بمقدّمات وأسباب يستدلّ بها على مواقعها .
قلت : لا بأس بنقل الرواية التي رواها الشيخ الأعظم(1) عن احتجاج الطبرسي للاطّلاع على بعض خصوصيّات الكهانة وإن كانت الرواية غير معتبرة في نفسها .
فنقول : روى الطبرسي في الاحتجاج في جملة الأسئلة التي سأل الزنديق عنها أبا عبدالله (عليه السلام) :
قال الزنديق : فمن أين أصل الكهانة، ومن أين يخبر الناس بما بحدث؟
قال (عليه السلام) : إنّ الكهانة كانت في الجاهليّة في كلّ حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الاُمور بينهم، فيخبرهم عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتّى: فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفطنة الروح مع قذف في قلبه; لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة ، فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.
وأمّا أخبار السماء; فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم، وإنّما مُنعت من استراق السمع لئلاّ يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ـ تعالى ـ لإثبات الحجّة ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيختلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به، فهو ما أدّاه إليه شيطانه ممّا
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 34 ـ 36.
(الصفحة 215)
سمعه، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة .
واليوم إنّما تؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس ممّا يتحدّثون به، وما يحدّثونه، والشياطين تؤدّي إلى الشياطين ما يحدث في البُعد من الحوادث: من سارق سرق، ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة الناس أيضاً، صدوق وكذوب إلى آخر الخبر(1) .
وفي الرواية اُمور قابلة للملاحظة والدقّة :
أحدها : قوله (عليه السلام) : «مع قذف في قلبه»، وقد احتمل الشيخ (قدس سره) أن يكون قيداً للأخير، وأن يكون قيداً للجميع .
ثانيها : أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «انقطعت الكهانة» هي الكهانة الكاملة المتضمّنة لأخبار السماء ، وإلاّ فأصل الكهانة فلم تنقطع .
ثالثها : أنّ أخبار الشياطين بالاُمور المستقبلة الأرضيّة مع عدم تحقّقها بعد، من أيّ طريق يكون ويحصل .
وكيف كان، فالبحث في الكهانة تارةً: من جهة أنّها فعل الكاهن وعمله ، فالكلام يقع في جوازه وعدمه ، واُخرى: من جهة الرجوع إلى الكاهن وتصديقه فيما يقول، وترتيب الأثر الشرعي على قوله . وعلى أيّ تقدير فالبحث تارةً: من جهة مقتضى القواعد، واُخرى: من جهة الروايات الواردة.
فنقول:
أمّا من جهة القاعدة، فالظاهر أنّ جواز إخباره على سبيل الجزم والبتّ إنّما
- (1) الاحتجاج 2: 218 ـ 219، وعنه بحار الأنوار 10: 168 قطعة من ح2 وج63: 76 ح30.