(الصفحة 123)
عن المنكر ، بل بما أنّها مخالفة لاُصول المذهب، ومخالفة لقداسة ساحة المعصوم (عليه السلام) ، حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً وشراباً خبيثاً، ولم يبيعوه من غيره، وهو ممّا لا يرضى به الشيعة الإماميّة .
كيف! ولو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه ، فالمسلم بما هو مسلم، والشيعي بما هو كذلك، يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضا الشارع ، فكيف يمكن صدوره من المعصوم (عليه السلام) (1) ؟
أقول : مع أنّك عرفت منه (قدس سره) (2) أنّ المستفاد من الأخبار المستفيضة الدالّة على لعن عشرة أشخاص، أنّ شراء العنب بقصد التخمير حرام، وليس مقامه أقلّ من غرس الشجر لأجله ، ومن المعلوم أنّ البيع إعانة على الشراء المحرّم على تقدير جميع الأقوال المتقدّمة في معنى الإعانة .
والآية الناهية عن التعاون على الإثم والعدوان ومثلها آبية عن التخصيص، فلامجال لدعوى أنّ اعتبار الأخبار إنّما هو بالإضافة إلى الخبر المخالف للقاعدة; نظراً إلى أنّه لا حاجة في الخبر الموافق لها إليه; لاقتضاء القاعدة إيّاه.
ولكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى القاعدة غير الآبية عن التخصيص، وإلاّ فلا مجال للخبر، أترى أنّه يمكن تجويز معاملة كانت أكلاً للمال بالباطل، ومع ذلك دلَّ الخبر(3) على جوازه؟ ولذا عرفت(4) أنّ الاستثناء المذكور في الآية يكون منقطعاً لا متّصلاً ، فتدبّر .
- (1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 219.
- (2) في ص102 ـ 103 .
- (3) تقدّم في ص120 ـ 121.
- (4) في ص98 .
(الصفحة 124)
وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده بعض الأعلام (قدس سره) على ما في تقريراته، حيث ذكر أنّ الذي ينبغي أن يقال: إنّه إذا تمّ عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة والمانعة، كان من قبيل تعارض الدليلين، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة; لموافقتها لعمومات الكتاب، كقوله ـ تعالى ـ : {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1). و {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(2). و{تِجَـرَةً عَن تَرَاض}(3) وإن لم يثبت عدم الفصل بين مواردها، كما احتمله المصنّف ـ يعني الشيخ ـ وجب أن يقتصر بكلّ طائفة على موردها، ولا تصل النوبة إلى التعارض بينهما والعمل بقواعده.
وهذا هو الظاهر من الروايات، وتشهد له أيضاً رواية ابن اُذينة المفصّلة بين الأصنام والبرابط . قال : ويقرّبه أنّ شرب الخمر وصنعها، أو صنع البرابط وضربها وإن كانت من المعاصي الكبيرة والجرائم الموبقة، إلاّ أنّها ليست كالشرك بالله العظيم; لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك .
وعليه: فيمكن اختلاف مقدّمة الحرام من حيث الجواز وعدمه باختلاف ذي المقدّمة من حيث الشدّة والضعف(4) . انتهى موضع الحاجة .
ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) بعد أن حكى الجمع بين الطائفتين: المجوّزة والمانعة ـ بحمل المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليباً أو صنماً، أو تواطئهما عليه، والإيراد عليه بأنّ هذا في غاية البُعد; إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنماً في متن بيعه أو في خارجه، ثمّ يجيء ويسأل الإمام (عليه السلام) عن جواز فعل هذا في المستقبل
- (1) سورة المائدة 5: 1.
- (2) سورة البقرة 2: 275.
- (3) سورة النساء 4: 29.
- (4) مصباح الفقاهة 1: 284 ـ 285.
(الصفحة 125)
وحرمته ـ قال : فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة; لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة(1)، ويشهد له رواية الحلبي المتقدِّمة وغيرها(2)،(3).
أقول : على تقدير تسليم الشهادة المذكورة، فالظاهر أنّه ليس في هذا الباب إلاّ رواية الحلبي، والشهادة ممنوعة ; لأنّ غاية مفادّها أنّ بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلاًّ أحبّ إليه ، ومن الظاهر أنّ الأحبّية لا تستلزم كراهة مخالفته، خصوصاً مع التعبير بنفي البأس المطلق عنها، كما لايخفى .
والمحكيّ عن السيّد في الحاشية ما ملخّصه : أنّه يمكن الجمع بحمل الأخبار المجوّزة على صورة العلم; بأنّ ذلك عمل المشتري وإن لم يعلم بصرف هذا المبيع الخاصّ في المحرّم، وحمل الأخبار المانعة على صورة العلم بصرفه في الحرام ، ويمكن الجمع أيضاً بحمل المانعة على العلم بقصد المشتري صرفه في الحرام، وحمل المجوّزة على العلم بالتخمير مع عدم العلم بأنّ قصده ذلك(4) .
واُورد عليه بأنّ الوجهين من الجموع التبرّعيّة، ولا شاهد لها أصلاً (5) .
فالحقّ أن يقال : أمّا بالنسبة إلى بيع الخشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً، فلا محيص عن الحكم بالحرمة فيه; لدلالة العقل والنقل عليه من غير معارض;
- (1) شرائع الإسلام 2: 10، إرشاد الأذهان 1: 357، اللمعة الدمشقيّة: 61، ونسبه في الجواهر 22: 31 إلى المشهور.
- (2) في ص120 ـ 121.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 130 ـ 131.
- (4) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 55.
- (5) مصباح الفقاهة 1: 283.
(الصفحة 126)
ولا مجال لتوهّم ثبوت عدم الخلاف فضلاً عن الإجماع على عدم الفصل، خصوصاً مع ما عرفت من الوسائل (1) .
وأمّا بالنسبة إلى بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً، خصوصاً بالإرادة المحقّقة حال المعاملة والبيع، فالأخبار فيه وإن كانت متعارضة، إلاّ أنّه لا وجه للحكم باعتبار الأخبار المجوّزة وإن كانت موافقة للعمومات الدالّة على الجواز في الكتاب; لمخالفتها للكتاب من جهة اُخرى غير قابلة للتخصيص، ولحكم العقل، وللأخبار المستفيضة الواردة في الخمر(2)، فهل ترى من نفسك ثبوت اللعن بالإضافة إلى غارس الخمر، والجواز لبيع العنب مع العلم بصرفه في الخمر وثبوت هذا القصد في حال البيع ؟!
وأمّا بالنسبة إلى بيع الخشب ممّن يعمله آلة للّهو أو القمار، فرواية ابن اُذينة(3)وإن كانت دالّة على الجواز بالإضافة إلى البرابط، إلاّ أنّه لا مجال للأخذ بها; للمخالفة مع الكتاب الناهي عن التعاون على الإثم والعدوان بعد وضوح الإباء عن التخصيص، كما لايخفى . وحكم العقل على ما عرفت(4) .
فالحكم في الجميع المنع وإن كانت المراتب مختلفة بالشدّة والضعف ، ولذا ذكر في المتن أنّ المسألة من جهة النصوص مشكلة، واستظهر أنّها معلّلة .
هذا ، ولكن يبقى في النفس شيء; وهو أنّه كيف يمكن الحكم بعدم التفصيل
- (1) في ص: 121.
- (2) وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب55، وج25: 375، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب34.
- (3) تقدّمت في ص120.
- (4) في ص118 ـ 119.
(الصفحة 127)
بالإضافة إلى الرواية الصحيحة الصريحة(1) في التفصيل والحكم بأنّه لا فرق بين البرابط والأصنام والصلبان ، كما لو فرض إمكان حمل مطلق الأخبار المجوّزة على التقيّة ، فالتعليل في جملة منها(2) بأنّا نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً، لا يلائم التقيّة بوجه، ولا مجال لذكر هذه العلّة، فتدبّر جيّداً .
- (1) وهي صحيحة ابن اُذينة المتقدِّمة في ص: 120.
- (2) مثل روايتي أبي كهمس و ابن موسى المتقدّمتين في ص120.