(الصفحة 132)
الدالّة على المنع، وترك العمل بالمقيّد الذي هو نصّ في مفهومه; وهو وإن لم يكن اجتهاداً في مقابل النصّ ولكنّه شبيه بذلك .(1)
هذا ، وأجاب عن الإيراد على الشهيد بعض الأعلام (قدس سره) بوجوه :
الأوّل : أنّ ما جعله وجهاً للجمع بين المطلقات لا يصلح لذلك; فإنّ مورده هم الجائرون من سلاطين الإسلام، فتكون الطائفة الاُولى المفصّلة بين الهدنة وقيام الحرب مختصّة بغير الكفّار من المخالفين . وأمّا المطلقات فأجنبيّة عن الطائفة المفصّلة; لاختصاصها بأعداء الدِّين من الكفّار والمشركين .
الثاني : أنّه لا وجه لردّ كلام الشهيد تارةً برميه إلى شبه الاجتهاد في مقابل النصّ ، واُخرى بتضعيف دليله .
أمّا الأوّل: فلأنّه لا مناص هنا من العمل بالمطلقات; لعدم صلاحيّة الطائفة المفصّلة للتقييد .
وأمّا الثاني: فلأنّ تقوية شخص الكافر بالسقي ونحوه وإن كان جائزاً، إلاّ أنّ تقويته لجهة كفره غير جائزة قطعاً ، ومن الواضح أنّ تمكين المشركين من السلاح يوجب تقويتهم على المسلمين ، بل ربما يستقلّ العقل بقبح ذلك .
الثالث : أنّه قد أمر في الآية الشريفة {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة}(2) الآية بجمع الأسلحة وغيرها للاستعداد والتهيئة إلى إرهاب الكفّار ، فبيعها لهم ولو في حال الهدنة نقض للغرض فلايجوز . وأمّا ما دلّ على الجواز فلضعف سنده لا يصلح لتقييد الروايات المانعة(3) ، انتهى.
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 149.
- (2) سورة الأنفال 8 : 60.
- (3) مصباح الفقاهة 1: 304 ـ 305.
(الصفحة 133)
أقول : العمدة في هذا الباب هي الآية الشريفة التي اُشير إليها، ومفادّها وجوب التهيّؤ والاستعداد في مقابل أعداء الدِّين بقصد الإرهاب والإخافة لهم، بحيث لم يروا أنفسهم محفوظين في مقابل المسلمين الذين أعدّوا عليهم ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل ، ولو كنّا نحن والآية الشريفة فقط لقلنا بأنّ الثابت في المقام حكم وجوبيّ إلزاميّ; إذ لا وجه للحكم بأنّ ترك الواجب محرّم وترك الحرام واجب شرعاً، وإلاّ يكون اللاّزم اجتماع حكمين في مورد ثبوت كلّ واحد منهما، وتحقّق استحقاق عقوبتين في صورة المخالفة ، ومن الواضح خلافه.
وهذا لا ينافي مثل صحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة، خصوصاً مع القول بعدم ثبوت المفهوم للقضايا حتّى القضيّة الشرطيّة ، والتعبير بأهل الحرب في رواية الصدوق(1)، والنهي عن البيع في الفتنة في بعض الروايات الاُخر(2)، يحتمل قويّاً أن يكون المراد في معرض الحرب ولو شأناً، وإيقاع الفتنة كذلك; لأنّه مقتضى العداوة لهم بالإضافة إلى الله وإلى المسلمين، لا ثبوت المحاربة الفعليّة وتحقّق الفتنة كذلك .
وبعد ذلك يتحصّل لنا أنّ الحقّ مع الشهيد في هذا الفرض .
الفرض الثالث : ما ألحقه بالكفّار ممّن يعادي الفرقة المحقّة الإماميّة من سائر فرق المسلمين، كالحرب الواقع بين دولتنا بعد الثورة الإسلاميّة ـ التي قطعت عروق الطاغوت، وقابلت من يعاضده من القوى العالميّة ، ـ وبين دولة العراق ، وامتدّت هذه الحرب لثمان سنوات تقريباً ، و لقداستشهد فيها جمعٌ غفير من الشباب المؤمن وطائفة من النساء .
- (1) المتقدّمة في ص130.
- (2) أي رواية السرّاج المتقدّمة في ص129.
(الصفحة 134)
والظاهر أنّ الدليل على اللحوق ما يستفاد من الأدلّة المانعة التي في رأسها الآية المتقدِّمة الدالّة على لزوم حفظ أهل الحقّ ووقوع غيرهم في رهبة واضطراب.
ونفى البُعد في المتن التعدّي إلى قطّاع الطرق وأشباههم; وذلك لما ذكرنا من تزلزل المسلمين ووقوعهم في الخطر ـ مع تمكينهم من السلاح ـ الموجب لضعفهم وتزلزلهم .
ويمكن استفادة ذلك من الآية الواردة في جزاء المحاربين مع الله والرسول; وهو قوله ـ تعالى ـ : {إِنَّمَا جَزَ ؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ}(1) الآية ، نظراً إلى أنّ قطّاع الطريق مقصود من الآية ، إمّا بالخصوص أو بالعموم بالإضافة إلى كلّ مفسد في الأرض وإن لم يكن بقاطع للطريق.
وجه الاستفادة، أنّ الحكم المترتّب على الموضوع مرجعه إلى قطع السلطة عن المسلمين، وحصول الأمن لهم من جهة إجراء الحكم المذكور، وهو لا يكاد يجتمع مع جواز بيع السلاح لهم وجعله تحت اختيارهم، وإلاّ فمن الواضح أنّ مجرّد الارتكاب للحرام لا يستلزم ذلك، فلا ينتقض بمثل المرتدّ، ومن يجوز قصاصه، وأمثال ذلك، فتأمّل جيّداً .
كما أنّه نفى البُعد فيه عن بيع السلاح إلى بيع غيره منهم ممّا يكون سبباً لتقويتهم على أهل الحقّ، كالزاد والراحلة والحمولة وأشباهها ، ويستفاد التعميم من بعض الروايات المتقدِّمة، خصوصاً ما عطف فيها السلاح على السروج(2)، فتدبّر .
- (1) سورة المائدة 5: 33.
- (2) في ص128.
(الصفحة 135)
ويمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة وإن لم يكن هناك ما يدلّ على التعميم .
ثمّ إنّه أفاد سيّدنا العلاّمة الماتن (قدس سره) في كلّ المسألة كلاماً مفصّلاً في كتابه في المكاسب المحرّمة ينبغي إيراده مع رعاية كمال التلخيص; لكثرة فوائده، سيّما مع ملاحظة شدّة ذوقه السياسي وحدّة بصره في الاُمور الاجتماعيّة ، قال بعد ذكر أنّ المراد بالسلاح ليس مطلق ما ينطبق عليه عنوانه كائناً ما كان ، بل ما كان سلاح الحرب فعلاً، وهو يختلف بحسب الأزمنة ، وبعد ذكر أنّ المراد من أعداء الدِّين هي الدولة المخالفة لا الأشخاص .
ثمّ اعلم أنّ هذا الأمر ـ أي بيع السلاح من أعداء الدِّين ـ من الاُمور السياسية التابعة لمصالح اليوم، فربما تقتضي مصالح المسلمين بيع السلاح، بل إعطاءه مجّاناً لطائفة من الكفّار.
وذلك مثل ما إذا هجم على حوزة الإسلام عدوّ قويّ لا يمكن دفعه إلاّ بتسليح هذه الطائفة التي يكون المسلمون في أمن منهم، وربما تقتضي المصالح ترك بيع السلاح وغيره ممّا يتقوّى به الكفّار مطلقاً; سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيّؤ له، أم زمان الهدنة والصلح والمعاقدة.
والوجه في الأخير احتمال أنّ تقويتهم موجب للهجمة على بلاد المسلمين ولو بعد حين; فإنّ هذا الاحتمال منجّز بالإضافة إلى هذا الأمر الخطير، ولا فرق في ذلك بين الخوف على حوزة الإسلام من غير المسلمين، أو على حوزة حكومة الشيعة من غيرها ولو كان هو المخالفين .
وبالجملة: إنّ هذا الأمر من شؤون الحكومة، وليس أمراً مضبوطاً، بل تابع لمصلحة اليوم، فلا الهدنة موضوع مطلقاً لدى العقل، ولا المشرك والكافر كذلك .
فالتمسّك بالاُصول والقواعد الظاهريّة في مثل المقام في غير محلّه.
(الصفحة 136)
والظاهر عدم استفادة شيء زائد من الأخبار الواردة في هذا المجال، ولو فرض خلاف ذلك فلا مناص عن تقييده أو طرحه .
ثمّ شرع في بيان أنّ الأخبار التي استدلّ بها على التفصيل ـ تارةً: بين زمان الهدنة وغيره مطلقاً، واُخرى: على التفصيل كذلك بين المخالفين والكفّار ـ قاصرة عن إثبات هذا التفصيل في المقامين، واستنتج أنّه لا يمكن القول بالجواز بمجرّد عدم الحرب والهدنة ، بل لابدّ من النظر إلى مقتضيات اليوم وصلاح المسلمين والملّة ، فلايستفاد أمر زائد عمّا هو مقتضى حكم العقل ، كما أنّ رواية عليّ بن جعفر (عليه السلام) (1)ورواية الصدوق(2) المشتملة على وصية النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) لا دلالة لهما على عدم الجواز منهم مطلقاً; لأنّ التحقيق عدم إطلاقهما .
ثمّ بيّن الوجه في ذلك ، ثمّ قال : فالمتحصّل من الروايات عدم الفرق بين المخالفين وغيرهم في الحكم، وعدم التفصيل بين الهدنة والمحاربة، كما نسب إلى المشهور(3) ، انتهى ملخّصاً .
ولعلّ كلامه في المتن ناظر إلى هذا الأمر الذي أفاده ، والوجه في عدم التعليق على رعاية المصالح في صورة المباينة واضح .
هذا ، ويستفاد من كلامه المتين أنّ المسائل الفقهيّة لا تكون على نسق واحد وفي سياق واحد ، بل مع ملاحظة الموضوعات واختلافها يختلف الحكم، فليست مسائل الجهاد مثلاً في رديف مسائل الطهارة والنجاسة في إجراء مثل قاعدة الإطلاق والتقييد بمجرّد ظهور أدلّتها بدواً في ذلك ، بل لابدّ من ملاحظة
- (1، 2) تقدّمتا في ص129 ـ 130.
- (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 226 ـ 232.