(الصفحة 147)
صدور الصورة من المصوّر مباشرة ; بمعنى أنّ البحث إنّما هو في حرمة التصوير وإيجاده بعد انعدامه في أيّ محلّ وموضع ولو كان قرطاساً ، والنهي في الرواية إنّما هو عن خصوص النقش على البيوت ، ولعلّ الاختصاص كان لأجل كونه مركزاً للصلاة ، والنقش يقدح في كمال التوجّه الذي هو الغرض من الصلاة وعباديّتها ، مع أنّه لا يلزم أن يكون التزويق المنهي عنه بالمباشرة، بل هو مثل قوله (عليه السلام) من بنى مسجداً فله كذا(1) ، حيث لا يعتبر في صدقه اشتغاله بالبناء وسائر الأعمال بالمباشرة ، كلّ ذلك على فرض دلالة كلمة النهي على الحرمة ، مع أنّه يحتمل فيه الكراهة، كما قد وقع التعبير بها في بعض الروايات الاُخر(2) .
وبالجملة: الظاهر عدم صلاحيّة الرواية لإثبات الحرمة في مفروض المقام، كما عرفت .
ومنها : الفقرة التي تشتمل عليها رواية تحف العقول الطويلة ـ التي أثبتنا اعتبارها من طريق خفيّ(3) ـ وهي قوله (عليه السلام) : وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن
- (1) وسائل الشيعة 5: 203 ـ 205 ح1، 2، 4 و 6 عن الكافي والتهذيب والمحاسن والفقيه وعقاب الأعمال.
- وفي بحار الأنوار 8 : 192 ح173 وج76: 369 قطعة من ح30 وج83 : 368 ح25 عن ثواب الأعمال.
- وفي ج69: 382 ح44 وج77: 123 ح20 وج84 : 4 ملحق ح76 عن أمالي الطوسي. وفي ج84 أيضاً: 11 ح86 عن المحاسن.
- وفي مستدرك الوسائل 3: 366 ـ 367 ح1، 2 و 5 عن دعائم الإسلام وأمالي الطوسي ولبّ اللباب.
- (2) وسائل الشيعة 3: 211، كتاب الطهارة، أبواب الدفن ب44 ح3، وج4: 440، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب45 ح14، وج5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب32 ح3 وص304ـ 307، أبواب المساكن ب3 ح3، 9، 13 و 14 وغيرها ، من أراد فليراجع الوسائل والبحار وغيرهما.
- (3) في ص13 ـ 15.
(الصفحة 148)
مِثال(1) الروحاني(2) ; نظراً إلى أنّ المراد بالروحاني مطلق ما فيه روح من الإنسان أو الحيوان ، وكلمة «مثال» أعمّ من المجسّمة وغيرها ، مع أنّ كلاهما في محلّ النظر ، بل المنع; فإنّ إرادة الروحاني بنحو ما ذكر ممّا لايكون معهوداً في الأخبار، كما أفاده السيّد المحقّق الماتن (قدس سره) في مكاسبه المحرّمة(3) .
بل المحتمل، بل الظاهر أنّ المراد به هو الموجود الذي غلب فيه الجهات الروحانيّة مقابل الجسمانية ، ولذا يطلق الروحاني على العالم الديني العامل بأحكامه من جهة شدّة اعتنائه بالاُمور الاُخرويّة وإن كان هذا الإطلاق مخالفاً للأدبيّة العربيّة ظاهراً ، مع أنّ الظاهر عدم ثبوت المفهوم للقضايا ولو الشرطيّة، كما ذكرنا مراراً .
مضافاً إلى أنّ شمول كلمة المثال للصورة الخالية عن الجسميّة غير معلوم ، ولذا عرفت في الرواية المتقدِّمة تفسير التزويق بتصاوير التماثيل، الظاهر في كون التماثيل مجسّمة، كما لايخفى .
وكما لعلّه يظهر من قوله ـ تعالى ـ حكاية : { مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـكِفُونَ}(4) .
ومنها : ما رواه الصدوق عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال :
- (1) كذا في مفتاح الكرامة 12:162 و رياض المسائل 8 :58 و مستند الشيعة 14: 107 و جواهر الكلام 22: 42 و المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 184 و فى بعض كتب اُخر، لكن لم أعثر عليه فى نسخ تحف العقول التى لاحظتها، بل فيها و فى أكثر الكتب: «مثل الروحانى».
- (2) تحف العقول : 335، وعنه وسائل الشيعة 17: 85 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2 قطعة من ح1 وبحار الأنوار 103: 48 قطعة من ح11.
- (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 273 ـ 274.
- (4) سورة الأنبياء 21: 52.
(الصفحة 149)
نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن التصاوير، وقال : نهى أن يحرق شيء من الحيوان بالنار ، ونهى عن التختّم بخاتم صفر أو حديد ، ونهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف السند كما اعترف به بعض الأعلام (قدس سره) (2)ـ : ماذكرناه سابقاً(3) من أنّ الظاهر أن يكون المورد صورة قابليّة المحلّ لنفخ الروح لأجل كونه جسماً خالياً عن الروح فقط .
والتوجيهان المذكوران في كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) في قضيّة أمر الإمام (عليه السلام) بنقش الأسد المنقوش على الستار، بافتراس الساحر الموجب للاستهزاء، بقوله (عليه السلام) على ما هو المحكيّ: «يا أسد الله خذ عدوّ الله»، وصيرورة النقش أسداً مفترساً من كون ذلك بملاحظة المحلّ وهو الستار، أو بملاحظة اللون الذي هو في الحقيقة ذرّات وأجسام لطيفة، خارجان عمّا هو المتفاهم عرفاً من هذه الرواية، كما اعترف نفسه (قدس سره) بأنّ إرادة التجسيم مقدّمة للنفخ ، ثمّ النفخ خلاف الظاهر(4) .
وأمّا ما في ذيل الرواية من النهي عن «أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم» فلعلّه لأجل كون الخاتم ملازماً للإنسان غالباً في الصلاة وغيرها ، ويمكن أن يكون الوجه هو منعه عن التوجّه المطلوب في الصلاة، كما في الصلاة في بيت فيه نقش ، فتدبّر .
- (1) الفقيه 4: 3 و 5 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح6، وروضة المتّقين 9: 339، 340 و 350، وفي بحارالأنوار 76: 329 و 331 عن أمالي الصدوق: 510 و 512.
- (2) مصباح الفقاهة 1: 358 هامش الصفحة.
- (3) في ص142 ـ 144.
- (4) كتاب المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 184.
(الصفحة 150)
ثمّ إنّه سيأتي البحث عن المراد بالحيوان المذكور في هذه الرواية، وفي بعض الروايات الاُخر إن شاء الله تعالى .
الفرع الثالث : تصوير غير ذوات الأرواح شجراً كان أو ورداً أو غيرهما ، والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في جوازه ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّ الجواز مقتضى القاعدة، بعد عدم ثبوت ما يدلّ على حرمة التصوير بنحو الإطلاق ـ الروايات الخاصّة الصريحة في الجواز، مقيّدة للإطلاق على فرض ثبوته سنداً ودلالةً ، مثل :
صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : لا بأس بتماثيل الشجر(1) .
والظاهر أنّه لا خصوصيّة للشجر ، بل المراد مطلق غير ذوات الأرواح، مثل الإنسان والحيوان .
وصحيحة أبي العبّاس البقباق، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : { يَعْمَلُونَ لَهُو مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَ تَمَـثِيلَ}(2) قال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنّها الشجر وشبهه(3) ; فإنّ مقتضى المقابلة أن يكون المراد بالرجال والنساء مطلق الحيوان وما له روح، أعمّ من الإنسان وغيره .
وصحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان(4) .
والمراد هو الحيوان المنطقي أعمّ من الإنسان، فيشمل كلّ حسّاس متحرّك بالإرادة ، ولا غرو في المنع عن ثبوت المفهوم بعد دلالة ظهور المنطوق على الجواز
- (1) المحاسن 2: 458 ح2582، وعنه وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح2 وبحار الأنوار 79: 288 ح12.
- (2) سورة سبأ 34: 13.
- (3 ، 4) تقدّمتا في ص142 ـ 144.
(الصفحة 151)
في صورة العدم، وهو المطلوب .
ومع ذلك استظهر الشيخ الأعظم الأنصاري عن جماعة تعميم الحكم لغير ذي الروح ولو لم يكن مجسّماً(1); لبعض الإطلاقات التي يجب تقييدها بمثل الروايات المتقدّمة، ولو لم يناقش في سندها أو دلالتها ، كما أنّه استظهر من بعض حرمة التصوير بنحو التجسيم ولو لم يكن من ذوات الأرواح; لتعبيره بالتماثيل المجسّمة(2) . ودعوى كون التمثال أعمّ من الحيوان .
وأورد عليه بأنّ هذا الظهور لو اعتبر لسقط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسّم ، فاللازم تعيّن الحمل على الكراهة، دون التخصيص بالمجسّمة(3) .
أقول : مضافاً إلى ضعف الإطلاقات من حيث السند، كما عرفت .
بقي الكلام بعد الفروع الثلاثة في أمر وقع التعرّض له في جملة من كتب أساطين الفقه، وهو حرمة تصوير الملك، والجنّ، والشيطان الذي كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه، كما في الكتاب العزيز(4) نفياً وإثباتاً ; فإنّ الظاهر وجود قولين فيها :
أحدهما: الحرمة، وهي المحكيّة عن بعض شروح القواعد(5)، واستظهرها صاحب الجواهر (6).
- (1) الكافي في الفقه: 281، المهذّب لابن البرّاج: 1:344، السرائر 2: 215، الروضة البهيّة 3: 212، رياض المسائل 8 : 61.
- (2) المقنعة: 587، النهاية: 363، المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: 172، إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 246.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 187 ـ 188.
- (4) سورة الكهف 18: 50.
- (5) مفتاح الكرامة 12: 166، شرح القواعد، كتاب المتاجر لكاشف الغطاء 1: 191.
- (6) جواهر الكلام 22: 43.