(الصفحة 166)
لا دلالة له على الحرمة كما ذكرناه مراراً .
وقوله ـ تعالى ـ : {وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(1) فقد ورد في تفسيره روايات دالّة على أنّه الغناء، أو منه الغناء، مثل :
رواية مهران بن محمّد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : الغناء ممّا قال الله ـ عزّوجلّ ـ : {وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم}(2) .
ورواية الوشاء قال : سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول : سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) (يسأل خ ل) عن الغناء ، فقال : هو قول الله ـ عزّوجلّ ـ : {وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم}(3) .
وصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سمعته يقول : الغناء ممّا وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية {وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَـلـِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(4) .
ويستفاد من هذه الرواية كون الغناء من المحرّمات الكبيرة; لوجود الضابطة المذكورة للمعاصي الكبيرة; وهو إيعادالله ـ تعالى ـ عليه في الكتاب النار فيها، كما لايخفى.
- (1) سورة لقمان 31: 6.
- (2) الكافي 6: 431 ح5، وعنه وسائل الشيعة 17: 305، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح7، ومرآة العقول 22: 301 ح5.
- (3) الكافي 6: 432 ح8، وعنه وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح11، ومرآة العقول 22: 302 ح8 .
- (4) الكافي 6: 431 ح4، وعنه وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح6، ومرآة العقول 22: 301 ح4.
(الصفحة 167)
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : {وَ الَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(1).
فقد ورد في تفسيره صحيحة محمّد بن مسلم وأبي الصباح الكنائي، أو عن أبي الصباح الكناني عن أبى عبدالله (عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : {وَ الَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال : (هو خ ل) الغناء(2).
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : {وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(3).
فإنّه قد ورد في تفسير القمّي عن الصادق (عليه السلام) {وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}التفسير بالغناء والملاهي (4).
هذا كلّه بالإضافة إلى الكتاب .
وأمّا السنّة، فتدلّ على الحرمة روايات مستفيضة :
منها : صحيحة زيد الشحّام قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تُجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك(5) .
ودلالتها على أزيد من الكراهة ممنوعة .
ومنها : رواية يونس ـ التي في طريقها سهل ـ قال : سألت الخراساني (عليه السلام) عن الغناء وقلت : إنّ العبّاسي ذكر عنك أنّك ترخّص في الغناء ؟ فقال : كذب الزنديق
- (1) سورة الفرقان 25: 72.
- (2) الكافي 6: 431 و433 ح6 و 13، وعنه وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح3 و 5، ومرآة العقول 22: 301 و 304 ح6 و 13، ورواه في بحار الأنوار 69: 262 مرسلاً، وفي ج79: 240 ح3 عن تفسير القمّي 2: 117 مرسلاً.
- (3) سورة المؤمنون 23: 3.
- (4) تفسير القمّي 2: 88 ، وعنه بحار الأنوار 69: 45 وج79: 240 ح2.
- (5) الكافي 6: 433 ح15، وعنه وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح 1، ومرآة العقول 22: 305 ح15.
(الصفحة 168)
ماهكذا قلت له ، سألني عن الغناء، فقلت : إنّ رجلاً أتى أبا جعفر (عليه السلام) فسأله عن الغناء؟ فقال : يا فلان إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حكمت(1) .
وأمّا ما في المستند; من أنّ التكذيب في نسبة الرخصة لا يستلزم المنع ; لأنّ عدم ترخيص الإمام (عليه السلام) أعمّ من المنع، بل كلامه (عليه السلام) صريح في أنّ التكذيب ليس للمنع، بل لذكره خلاف الواقع ، مع أنّه يمكن أن يكون التكذيب لأجل أنّه نسب الرخصة في المطلق، وهو كذب صريح، ولا يتوهّم دلالة كونه مع الباطل على الحرمة; إذ لا يفيد ذلك أزيد من الكراهة الخ.(2)
فمدفوع بظهور الرواية في حرمة نفس الغناء بعنوانه ولو لأجل كونه باطلاً، والسائل كأنّما تعجّب من ترخيص الإمام (عليه السلام) هذا العنوان، كما لايخفى .
ومنها : مرسلة الصدوق الآتية .
ومنها : غير ذلك من الأخبار الكثيرة(3) .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لا ينبغي الإشكال في أصل الحكم بالحرمة في الجملة في هذا المقام، إلاّ أنّه لابدّ من تتميم المقام بذكر اُمور:
الأوّل : أنّ الحكم هل هو ثابت بنحو الإطلاق، أو يكون مقيّداً بما حكي عن
- (1) الكافي 6: 435 ح25، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 14 ح32، قرب الإسناد: 342 ح1250، اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي»: 501 ح958، وعنها وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح13 و 14، وفي بحار الأنوار 49: 263 ح6 عن قرب الإسناد والعيون، وفي ج79: 242 و 243 ح11 و 14 عنهما وعن الكشي.
- (2) مستند الشيعة 14: 137.
- (3) راجع وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99.
(الصفحة 169)
المحدّث الكاشاني (قدس سره) من اختصاص الحرام منه بما اشتمل على محرّم من خارج، مثل اللعب بآلات اللهو، ودخول الرجال على النساء، والكلام بالباطل، وإلاّ فهو في نفسه غير محرّم، حيث ذكر في محكي الوافي:
أنّ الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه، اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر، والتعليم، والاستماع، والبيع والشراء كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني اُميّة وبني العبّاس; من دخول الرجال عليهنّ وتكلّمهنّ بالأباطل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقصب وغيرهما، دون ما سوى ذلك من أنواعه، كما يشعر به قوله (عليه السلام) : ليست بالتي يدخل عليها الرجال(1).
إلى أن قال : وعلى هذا فلا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة لذكر الجنّة والنار، والتشويق إلى دار القرار، ووصف نِعَم الله الملك الجبّار، وذكر العبادات، والترغيب في الخيرات، والزهد في الفانيات، ونحو ذلك، كما اُشير إليه في حديث الفقيه بقوله (عليه السلام) : فذكّرتك الجنّة(2). وذلك لأنّ هذا كلّه ذكر الله، وربما «تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله»(3) .
وبالجملة: لا يخفى على أهل الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حقّ الغناء عن باطله، وأنّ أكثر ما يتغنّى به المتصوّفة في محافلهم من قبيل الباطل(4) ، انتهى.
وذكر الشيخ بعد نقل ما ذكر ما محصّله: أنّه لولا استشهاده بقوله (عليه السلام) : «ليست
- (1) الكافي 5: 120 ح3، الفقيه 3: 98 ح376، تهذيب الأحكام 6: 357 ح1022، الاستبصار 3: 62 ح205، وعنها وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب15 ح3، و تأتى بتمامها في ص187.
- (2) الفقيه 4: 42 ح139، وعنه وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب16 ح2.
- (3) اقتباس من سورة الزمر 39: 23.
- (4) الوافي 17: 218 ـ 223.
(الصفحة 170)
بالتي يدخل عليها الرجال» أمكن تطبيق كلامه على أنّ المحرّم هو الصوت اللهوي الذي يناسبه اللعب بالملاهي، والتكلّم بالأباطيل، ودخول الرجال على النساء; لحظّ السمع والبصر من شهوة الزنا، دون مجرّد الصوت الحسن الذي يذكّر اُمور الآخرة ويُنسي شهوات الدُّنيا .
إلاّ أنّ الاستشهاد المذكور ظاهر في التفصيل بين أفراد الغناء لا من حيث نفسه(1) .
وحكي نظير ذلك عن السبزواري صاحب الكفاية(2) .
واُورد عليه بإيرادات :
منها : أنّ الظاهر من الروايات الكثيرة التي عرفت جملة منها ، بل المتواترة من حيث المعنى، هو النهي عن الغناء من حيث نفسه مع قطع النظر عن اقترانه بسائر العناوين المحرّمة .
ومنها : أنّه إذا كان تحريم الغناء إنّما هو للعوارض المحرّمة، كان الاهتمام بالمنع عنه في هذه الروايات لغواً محضاً; لورود النهي عن سائر المحرّمات بأنفسها .
ومنها : أنّ رواية الفقيه مرسلة لا اعتبار بها ، كما أنّ رواية أبي بصير وإن كانت صحيحة، إلاّ أنّه لا دلالة فيها على قصد المحدّث المذكور; فإنّ غاية ما يستفاد منها
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 299 ـ 300.
- (2) كفاية الفقه المشتهر بـ«كفاية الأحكام» 1: 432 ـ 434، وقال بعد نقل كلام عن الشيخ أبي علي الطبرسي في مجمع البيان (ج1 ص17 ـ 18): وهذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفاً بين القدماء، وكلام السيّد المرتضى في الغرر والدرر (أمالي المرتضى 1: 57 ـ 58) لا يخلو عن إشعار واضح بذلك.