(الصفحة 21)
بالتعبّد ، كذلك لا يقدح فيه التعارض المنطقي الفعلي ، كالتعارض بين العامّ والخاصّ، حيث إنّهما متعارضان عقلاً; لأنّ الموجبة الكلّية نقيضها السالبة الجزئيّة وبالعكس ، إلاّ أنّهما غير متعارضين عند العقلاء في خصوص مورد التقنين ، كما ذكرنا في علم الاُصول(1) . نعم ، ما أفاده الشيخ (قدس سره) ، فإنّه وإن كان يرد عليه أنّ التعارض الخارج عن أدلّة العلاج هو ما لا يكون تبرّعياً، إلاّ أنّه حقّ بالإضافة إلى المرجّحات السنديّة من الأفقهيّة والأورعيّة والأصدقيّة ومثلها في رواية واحدة مشتملة على حكمين متنافيين، كما هو المفروض في كلام الشيخ (قدس سره) ، وأمّا بالإضافة إلى سائر المرجّحات مثل الشهرة وموافقة الكتاب ومثلهما فلا.
ثمّ إنّ بعض الأعلام (قدس سره) أفاد في المقام بعد أن حكى الوجوه الخمسة للجمع بين الروايات عن الفقهاء العظام قديماً وحديثاً على ما في تقريراته ما ملخّصه: أنّه لايجوز العمل بروايات المنع لوجهين :
الأوّل: عدم استيفائها شرائط الحجّية بنفسها ، أمّا رواية ابن شعيب فلضعف سندها (2) لجهالة علي بن مسكين أو سكن ، وكذا رواية دعائم الإسلام للإرسال(3)، وتوهّم انجبارهما بعمل المشهور توهّم فاسد; فإنّه مضافاً إلى فساد الكبرى أنّ الحكم غير مختصّ بالعذرة، بل شامل لغيرها من النجاسات .
وأمّا رواية سماعة، فهي وإن كانت موثّقة إلاّ أنّه لايجوز الاعتماد عليها، إمّا لإجمالها لمعارضة صدرها مع ذيلها إن كانت رواية واحدة، وإمّا للتعارض
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 8 : 85 ـ 87 .
- (2) جواهر الكلام 22: 17.
- (3) دعائم الإسلام 2: 18 ح22، وعنه مستدرك الوسائل 13: 71، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب5 ح5.
(الصفحة 22)
والتساقط لو كانت روايتين، كما تؤيّده القرائن الكثيرة والاُمور المتعدّدة(1) ، انتهى موضع الحاجة .
قلت : ـ مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الشهرة جابرة، وعدم اختصاصها بالعذرة، بل العموميّة لسائر النجاسات لا يقدح في ذلك ـ قد ذكرنا أنّ موثّقة سماعة سواء كانت واحدة أو متعدّدة يجري فيها قواعد باب التعارض سوى المرجّحات السنديّة على فرض الوحدة ، وقد ذكرنا في محلّه(2) أنّ أوّل المرجّحات على ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة هي الشهرة الفتوائيّة، وهي موافقة مع روايات المنع أو روايته، فلابدّ من الالتزام به وأنّ بيع العذرة محرّم تكليفاً، ولا يبعد إلغاء الخصوصيّة من كلمة «العذرة» ـ على تقدير الاختصاص بعذرة الإنسان ـ إلى مطلق المدفوعات النجسة وإن لم تكن للإنسان وكان صاحبها غير نجس العين، كفضلتي الهرّة والفأرة وغيرهما، ولو سلّمنا عدم إلغاء الخصوصيّة فالحكم بالإضافة إلى عذرة الإنسان واضح .
ثمّ إنّه ذكر في ذيل المسألة أنّه لا يجوز التكسّب بها ـ أي بالأعيان النجسة ـ ولو كانت لها منفعة محلّلة مقصودة بالتسميد في العذرة، وقد نسب العلاّمة (قدس سره) في محكي التذكرة إلى أبي حنيفة تجويز بيع السرجين النجس; لأنّ أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير(3) ، مع أنّ رواية محمّد بن مضارب الدالّة على
- (1) مصباح الفقاهة 1: 90.
- (2) سيرى كامل در اصول فقه: 16 / 532 ـ 555.
- (3) تذكرة الفقهاء 10: 31، الحاوي الكبير 6: 470، حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 4: 58، العزيز شرح الوجيز 4: 23، المغني لابن قدامة 4: 302، المجموع شرح المهذّب 9: 218، الشرح الكبير لابن قدامة 4: 14.
(الصفحة 23)
جواز بيع العذرة حسنة يجوز الاعتماد عليها، فلا يبقى حينئذ وجه لما أفاده من عدم جواز التكسّب ولو كانت لها منفعة محلّلة مقصودة .
ومنها : ما ورد في الميتة، مثل رواية البزنطي، عن الرضا (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع ؟ قال : نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها(1) .
ومن الواضح أنّ الألية المقطوعة من الحيّ بحكم الميتة، فتدلّ الرواية على عدم جواز بيعها في فرض النجاسة كميتة الغنم أو ما هو بحكمها، كما تدلّ على عدم جواز أكلها وحرمته، وهي قرينة على كون المراد من حرمة البيع هي الحرمة التكليفيّة لاالوضعيّة .
ورواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال : لا، ولو لبسها فلا يصلِّ فيها(2) ; بناءً على كون المنهي جميع الاُمور المذكورة في السؤال لاخصوص اللبس، وليس النهي عن الصلاة فيها في صورة اللبس قرينة على اختصاص النهي به وغير شامل للبيع، كما لا يخفى .
هذا، مضافاً إلى دلالة رواية تحف العقول على ذلك وإن ناقشنا في دلالة الآيتين نظراً إلى الانصراف إلى الأكل كما مرّ(3) .
- (1) قرب الإسناد : 268 ح1066، مستطرفات السرائر: 55 ح8 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب6 ح6، وفي بحار الأنوار 80 : 77 ح5 عن قرب الإسناد.
- (2) قرب الإسناد: 268 ح1067، مسائل عليّ بن جعفر (عليه السلام) : 139 ح151، وعنهما وسائل الشيعة 17: 96، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب5 ح17 وفي بحار الأنوار 103: 71 ح8 عن قرب الإسناد.
- (3) في ص: 10 ـ 11.
(الصفحة 24)
وفي مقابلها رواية محمّد بن عيسى بن عبيد، عن أبي القاسم الصيقل وولده قال: كتبوا إلى الرجل (عليه السلام) : جعلنا الله فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولاتجارة غيرها ونحن مضطرّون إليها، وإنّما علاجنا جلود الميتة والبغال والحمير الأهليّة لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا، ونحن نصلّي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة ياسيّدنا لضرورتنا ؟ فكتب (عليه السلام) : اجعل ثوباً للصلاة، إلى آخر الحديث(1) .
وقد استشكل شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) على الاستدلال بالرواية للجواز بما لفظه : ويمكن أن يقال: إنّ مورد السؤال عمل السيوف وبيعها وشراؤها لاخصوص الغلاف مستقلاًّ، ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف، وهو لاينافي عدم جواز معاوضته بالمال ـ إلى أن قال :ـ مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلاّ من حيث التقرير الغير الظاهر في الرِّضا، خصوصاً في المكاتبات المحتملة للتقيّة(2) .
وأجاب عنه بعض الأعلام (قدس سره) على ما في تقريراته بما يرجع إلى أنّ هذا من الغرائب; لأنّ منشأه حسبان أنّ الضمائر في قول السائل: «فيحلّ لنا عملها وشراؤها ومسّها بأيدينا» إلى السيوف، ولكنّه فاسد; فإنّه لا وجه لأن يشتري السيّاف سيوفاً من غيره ، كما لا وجه لسؤاله عن مسّها، وإصراره بالجواب عن كلّ ما سأله ، بل هذه الضمائر ترجع إلى جلود الحمر والبغال المفروض في السؤال ، ومن
- (1) تهذيب الأحكام 6: 376 ح1100، وعنه وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب38 ح4.
- (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 32 ـ 33.
(الصفحة 25)
المستبعد جدّاً بل من المستحيل عادةً أن يجدوا جلود الميتة من الحمير والبغال بمقدار يكون وافياً بشغلهم بلا شرائها من الغير .
وأمّا ما أفاده من التقيّة في المكاتبات، فهي وإن كانت كثيرة لكونها معرضاً لها من جهة البقاء، ولكنّها في خصوص هذه الرواية غير محتملة; لورودها على غير جهة التقيّة; لذهاب أهل السنّة بأجمعهم إلى بطلان بيع الميتة. والتشكيك في كاشفيّة التقرير عن الرضا، وفي كونه من الحجج الشرعيّة، مع أنّها كسائر الأمارات مشمول لأدلّة الحجّية. ورمي الرواية بالتقيّة نظراً إلى ذهاب العامّة إلى جواز بيع جلود الميتة بعد الدبغ لطهارتها به ، وأمّا قبل الدبغ فلا تصلح للأغماد، يدفعه أنّ أمر الإمام (عليه السلام) بأن يجعلوا ثوباً لصلاتهم على خلاف التقيّة والجهات الاُخر، وذكر في الذيل أنّ الرواية ضعيفة السند فلا تقاوم الروايات المانعة(1) .
وقال سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) في كتابه في المكاسب المحرّمة ما محصّله: أنّ الرواية صحيحة ولا يضرّ بها جهالة أبي القاسم; لأنّ الراوي للكتابة والجواب هو محمّد بن عيسى، وقوله : قال: كتبوا; أي قال محمّد بن عيسى: كتب الصيقل وولده، فهو مخبر لا الصيقل وولده، وإلاّ لقال: كتبنا. واحتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدّاً، سيّما مع قوله في ذيلها : وكتب إليه ، فلو كان الراوي الصيقل لقال: كتبت إليه.
وليس في السند من يتأمّل فيه إلاّ أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد ومحمّد بن عيسى بن عبيد، وهما ثقتان على الأقوى، والمظنون لولا المقطوع به أنّ قوله: «نعمل السيوف» مصحّف عن قوله: نغمد السيوف; فإنّهما شبيهتان في الكتابة.
والشاهد عليه أوّلاً: رواية قاسم الصيقل، الظاهر أنّه ابن أبي القاسم قال : كتبت
- (1) مصباح الفقاهة 1: 122 ـ 124.