(الصفحة 215)
سمعه، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة .
واليوم إنّما تؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس ممّا يتحدّثون به، وما يحدّثونه، والشياطين تؤدّي إلى الشياطين ما يحدث في البُعد من الحوادث: من سارق سرق، ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة الناس أيضاً، صدوق وكذوب إلى آخر الخبر(1) .
وفي الرواية اُمور قابلة للملاحظة والدقّة :
أحدها : قوله (عليه السلام) : «مع قذف في قلبه»، وقد احتمل الشيخ (قدس سره) أن يكون قيداً للأخير، وأن يكون قيداً للجميع .
ثانيها : أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «انقطعت الكهانة» هي الكهانة الكاملة المتضمّنة لأخبار السماء ، وإلاّ فأصل الكهانة فلم تنقطع .
ثالثها : أنّ أخبار الشياطين بالاُمور المستقبلة الأرضيّة مع عدم تحقّقها بعد، من أيّ طريق يكون ويحصل .
وكيف كان، فالبحث في الكهانة تارةً: من جهة أنّها فعل الكاهن وعمله ، فالكلام يقع في جوازه وعدمه ، واُخرى: من جهة الرجوع إلى الكاهن وتصديقه فيما يقول، وترتيب الأثر الشرعي على قوله . وعلى أيّ تقدير فالبحث تارةً: من جهة مقتضى القواعد، واُخرى: من جهة الروايات الواردة.
فنقول:
أمّا من جهة القاعدة، فالظاهر أنّ جواز إخباره على سبيل الجزم والبتّ إنّما
- (1) الاحتجاج 2: 218 ـ 219، وعنه بحار الأنوار 10: 168 قطعة من ح2 وج63: 76 ح30.
(الصفحة 216)
ينحصر بما إذا كان عالماً به وقاطعاً بوقوعه، سيّما بالإضافة إلى الاُمور المستقبلة التي عرفت أنّ اطّلاع الشياطين عليها غير معلوم الوجه . وأمّا لو لم يتحقّق له القطع به من أيّ سبب، فلايجوز له الإخبار بالكيفيّة المذكورة ; لأنّه من الظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً(1) ، فالتعويل في جواز الإخبار على الظنّ الذي لم يقم على اعتباره دليل غير جائز .
وأمّا تصديقه فيما يقول، فلايجوز مطلقاً وإن كان العلم حاصلاً للكاهن; لاختصاص حجّية القطع بالقاطع دون غيره، فإذا أخبر الكاهن بأنّ المال الذي سرق من زيد قد سرقه عمرو، ولم يكن دليل على ذلك من بيّنة ونحوها، فلايجوز لزيد التقاصّ من مال عمرو، وترتيب الأثر العملي على قول الكاهن وإن كان قاطعاً بذلك .
وأمّا من جهة الروايات، فما ورد فيها عبارة عن :
صحيحة الهيثم ـ التي رواها ابن إدريس في مستطرفات السرائر ـ قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيء يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من مشى إلى ساحر، أو كاهن، أو كذّاب يصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب(2) .
والظاهر أنّ استشهاد الإمام (عليه السلام) بقول الرسول(صلى الله عليه وآله) إنّما هو لأجل عدم كون المخبر المذكور خالياً عن واحد من العناوين الثلاثة، وإلاّ فلا وجه للاستشهاد المزبور، خصوصاً مع التقييد بقوله (عليه السلام) : «يصدّقه بما يقول» كما لايخفى .
- (1) اقتباس من سورة يونس 10: 36.
- (2) مستطرفات السرائر: 83 ح22، وعنه وسائل الشيعة 17: 150، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب26 ح3، وبحار الأنوار 2: 308 ح66 وج79: 212 ح11.
(الصفحة 217)
وعليه: فلا وجه لما حكي عن تقريرات بعض الأعلام (قدس سره) من أنّه لا دلالة في الرواية على انحصار المخبر عن الاُمور المغيبة بالكاهن والساحر والكذّاب ، بل الظاهر منها أنّ الأخبار المحرّم منحصر بإخبار هذه الطوائف الثلاث ، فالإمام بين ضابطة حرمة الإخبار عن الغائبات .
ونظيره ما إذا سئل أحد عن حرمة شرب العصير التمري، فأجاب بأنّ الحرام من المشروبات إنّما هو الخمر والنبيذ والعصير العنبي إذا غلا ; فإنّ هذا الجواب لا يدلّ على حصر جميع المشروبات بالمحرّم ، وإنّما يدلّ على حصر المشروبات المحرّمة بالاُمور المذكورة ، وإذن فلا دلالة في الرواية على حرمة مطلق الإخبار(1) .
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ محطّ السؤال في الرواية ليس هو جواز إخبار المخبر وعدمه ، بل جواز الرجوع إليه وتصديقه فيما يقول ـ : أنّك عرفت ظهور الاستشهاد المزبور في عدم خروج المخبر المذكور عن هذه الطوائف الثلاث بعد وضوح عدم كونه نبيّاً ولا وصيّاً .
وعليه: فيمكن الاستدلال بالرواية على عدم جواز الإخبار أيضاً بعد ثبوته في الساحر والكذّاب وكون الكاهن مثلهما ، كما أنّه يمكن الاستدلال بها على عدم جواز الإخبار بالاُمور المستقبلة بطريق أولى ، فتدبّر .
ومنها : رواية أبي بصير ـ التي رواها عنه عليّ بن أبي حمزة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد(صلى الله عليه وآله) .
قال : قلت : فالقيافة (فالقافة خل) قال : ما اُحبّ أن تأتيهم. وقيل: ما يقولون شيئاً إلاّ كان قريباً ممّا يقولون ، فقال : القيافة فضلة في النبوّة ذهبت في الناس حين
- (1) مصباح الفقاهة 1: 643.
(الصفحة 218)
بُعث النبيّ(صلى الله عليه وآله) .(1)
ومنها : رواية الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) نهى عن إتيان العرّاف ، وقال : من أتاه وصدّقه فقد برئ ممّا أنزل الله ـ عزّوجلّ ـ على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .
قال صاحب الوسائل بعد نقل الرواية : فسّر بعض أهل اللغة العرّاف بالكاهن وبعضهم بالمنجِّم(3) .
هذا ، ولكنّ الرواية ضعيفة كسابقتها ، مضافاً إلى ما عرفت من تفسير بعض أهل اللغة العرّاف بالمنجِّم .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا انحصار الرواية المعتبرة بالاُولى; وهي صحيحة الهيثم ، وقد استظهرنا منها حرمة إخبار الكاهن من جهة أنّ الكهانة فعله وإن كان مقتضى القاعدة الجواز في صورة العلم .
ومنها : القيافة; وهي الاستناد إلى علامات خاصّة في إلحاق بعض الناس ببعض، وسلب بعض عن بعض على خلاف ما جعله الشارع ميزاناً للإلحاق وعدمه من الفراش وعدمه .
أقول : الوجه في ذلك المخالفة لما جعله الشارع ميزاناً للإلحاق ، وقد ذكر الميزان
- (1) الخصال: 19 ح68، وعنه وسائل الشيعة 17: 149، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب26 ح2 وبحار الأنوار 79: 210 ح4.
- (2) الفقيه 4: 3 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 149، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب26 ح1 وروضة المتّقين 9: 341 ـ 342.
- (3) لسان العرب 4: 310، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 218، مجمع البحرين 2: 1200، القاموس الفقهي: 248.
(الصفحة 219)
في كتاب النكاح في بحث الولادة من ثبوت الفراش ورعاية أقصى الحمل بعدم الانقضاء عنه، وأقل مدّة الحمل بعدم ثبوت الأقلّ منها(1)، وغير ذلك ، فرفع اليد عن ذلك والاستناد إلى علامات خاصّة ـ وإن كان مفيداً للظنّـ مخالف للميزان الشرعي .
وفي رواية أبي بصير المتقدّمة : «القيافة فضلة في النبوّة ذهبت في الناس حين بُعث النبيّ(صلى الله عليه وآله)» .
نعم ، ربما يتحقّق الالتجاء إلى الرجوع إلى القافة مع اجتماع شرائط الإلحاق، كما في مورد الرواية المفصّلة(2) التي أوردها الشيخ(3) في عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) ، الذي صار ذات ولد بعد مضيّ مدّة كثيرة من عمره الشريف، ودغدغة بعض المخالفين وحتّى من الأقرباء في ذلك ، مع أنّ الاعتقاد بإمامته وشهادته بذلك أدلّ دليل على ذلك ، فراجع .
وبالجملة: فالقيافة لا تسوّغ مخالفة الشارع ومناقشته فيما جعله ميزاناً للإلحاق إثباتاً ونفياً ، وهذا واضح جدّاً .
ومنها : التنجيم; وهو بالخصوصيّات المذكورة في المتن لاينبغي أن يعدّ من الأعمال المحرّمة في عداد المحرّمات المذكورة في هذه المسألة، كالكهانة والقيافة ، بل
- (1) وسائل الشيعة 21: 169 ـ 170، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء ب56 وص172ـ 175 ب58 وص193 ب74، وج22: 430، كتاب اللعان ب9 ح3.
- ويراجع تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب النكاح: 503 ـ 514.
- (2) الكافي 1: 322 ح14، وعنه مرآة العقول 3: 378 ـ 382 ح14، وشرح اُصول الكافي والروضة للمولى محمد صالح المازندراني 6: 194 ـ 197 ح14.
- (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 9.