(الصفحة 59)
المذكورة; ضرورة أنّ القسم الاخير من المتنجّس داخل في العموم، أو الإطلاق على فرض الثبوت، كما لايخفى .
و بالجملة; فالاستدلال بالآية على أنّ الأصل الحاكم على أصالة الجواز في المتنجّسات هو عدم جواز الانتفاع ممنوع جدّاً .
ومن الآيات قوله ـ تعالى ـ: {وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(1) بناءً على كون المتنجّس من مصاديق الرجز ، فوجوب الهجر المطلق عنه دليل على وجوب الاجتناب من المتنجّس .
ومن جملة من الأجوبة عن الاستدلال بالآية المتقدّمة يظهر الجواب عن الاستدلال بهذه الآية ، مع أنّ الآية واقعة في السور الأوّلية النازلة من الكتاب ، ومن البعيد أن يكون المراد في هذه الحالة هو الشامل للمتنجّس، ولذا استبعدنا سابقاً أن يكون المراد بقوله : {وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(2) هو اعتبار طهارة لباس المصلّي(3) . وعليه: فيحتمل قويّاً أن يكون المراد بالرجز هو الرجس بمعناه الذي تقدّم، ويحتمل أن يكون المراد به العذاب الذي اُريد في الآية موجباته، كما في قوله ـ تعالى ـ : {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَـلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ}(4).
ومن الآيات قوله ـ تعالى ـ في شأن الرسول(صلى الله عليه وآله) : {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَــِثَ}(5)نظراً إلى انطباق الخبائث على المتنجّسات أيضاً .
- (1) سورة المدّثر 74: 5.
- (2) سورة المدّثر 74: 4.
- (3) في ص 30.
- (4) سورة البقرة 2: 59.
- (5) سورة الأعراف 7: 157.
(الصفحة 60)
وأجاب عنه الشيخ بأنّ المراد من التحريم خصوص حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلّية الطيّبات (1).
واُورد عليه بأنّ مقتضى الإطلاق هو حرمة الانتفاع بالخبائث مطلقاً ، فإذا قلنا بعمومها للمتنجّس يكون مقتضاه هي حرمة الانتفاع بالمتنجّس مطلقاً .
وربما يقال في مقام الجواب عن الاستدلال: أنّ متعلّق التحريم في الآية إنّما هو العمل الخبيث والفعل القبيح لا الأعيان الخارجيّة، مستشهداً لذلك بقوله ـ تعالى ـ : {وَ نَجَّيْنَـهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَـلـِثَ}(2); فإنّ المراد بالخبائث فيها اللواط (3).
ولكنّ الظاهر أنّ ما أفاده الشيخ من أنّ المقابلة تقتضي أن يكون المراد خصوص الأكل; ضرورة أنّ مقابلة الطيّبات مع الخبيثات لا يمكن معه أن يقال: إنّ المراد بالطيّبات الأعمال الحسنة، بداهة أنّه لا مجال لدعوى أنّ إحلال الأعمال الحسنة من شؤون النبيّ(صلى الله عليه وآله); لأنّ حلّيتها ضروريّة، خصوصاً مع المسبوقيّة بقوله ـ تعالى ـ : {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـلـهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}(4). فإنّ التّنزل عن الأمر بالمعروف مع إحلال الطيّبات بالمعنى المذكور ممّا لا يكاد يستقيم .
و عليه: فلا محيص من أن يكون المراد هو إحلال الأكل، ولا محالة يكون مقتضى قرينة المقابلة أن يكون المراد بالخبائث القاذورات، كما لايخفى .
وأمّا كون المراد بالخبائث في الآية المستشهد بها بمعنى العمل، فلأجل ذكر العمل
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 84 .
- (2) سورة الأنبياء 21: 74.
- (3) مصباح الفقاهة 1: 216.
- (4) سورة الأعراف 7: 157.
(الصفحة 61)
معها، والعمل لا يناسب الأعيان، والإتيان بالجمع المفيد للعموم إنّما هو باعتبار شيوع هذا العمل القبيح بينهم، لا الإتيان بجميع الخبائث ، فتدبّر .
ومن الروايات:رواية تحف العقول المتقدِّمة(1) الدالّة على النهي عن التجارة بوجوه النجس، بدعوى كون المراد منها أعمّ من المتنجّس .
ونحن وإن ذكرنا اعتبارها مع إرسالها وعدم سلامة مضمونها ومفادها، إلاّ أنّه من الظاهر أنّ المراد من وجوه النجس الأعيان النجسة بالذات، ولا تشمل المتنجّسات التي لا يكون فيها وجه النجس، خصوصاً مع ملاحظة التعليل الواقع فيها الذي عرفت(2) مفاده ، وينبغي هنا التنبيه على أمر يحتاج إلى مقدّمة ، وهي:
أنّ الأحكام التي بيّنها الرسول(صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) تارةً: تكون خالية عن ذكر العلّة، كما هو الغالب في تلك الأحكام من الواجبات والمحرّمات وغيرهما ، ومن الواضح لزوم الأخذ بها كذلك وإن لم تكن العلّة معلومة لنا; لقصور عقولنا عن الوصول إليها كما هو مقتضى القاعدة .
واُخرى: تكون مشتملة على ذكر العلّة و متضمّنة للتعليل.
وفي هذه الصورة قد تكون العلّة ارتكازيّة ومعلومة للمخاطب، كقوله (عليه السلام) : لاتشرب الخمر لأنّه مسكر(3) ; فإنّ إسكار الخمر أمر عقلائيّ معروف لدى الناس، والشارع إنّما حكم بالحرمة لأجل هذه العلّة التي يقال لها العلّة المنصوصة ،
- (1) في ص11 .
- (2) فى ص 11 و 32.
- (3) اقتباس من الروايات الواردة في تحريم شرب الخمر، فيراجع وسائل الشيعة 25: 279، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب1 و ص296 ب9 وغيرهما.
(الصفحة 62)
وكقوله (عليه السلام) في صحاح بعض الأخبار على ما تقدّم في بحث المياه(1): ماء البئر واسع لايفسده شيء(2); لأنّ له مادّة; فإنّ اشتمال البئر على المادّة النابعة أمر عرفيّ عقلائيّ.
وقد تكون العلّة أيضاً تعبّدية كأصل الحكم، كالتعليل بالاستصحاب في صحيحة زرارة(3) الواردة في الرجل ينام وهو على وضوء وأنّه هل توجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء أم لا ؟ فإنّ الإمام (عليه السلام) بعد أن ذكر أنّه قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن، حكم بعدم وجوب الوضوء عليه، معلّلاً له بالاستصحاب الذي هو أصل عمليّ تعبّديّ، لا أمارة ولا أصل عقلائيّ كأصالة الحقيقة ونحوها، وهذا بخلاف مقام الاستشهاد ببعض آيات الكتاب اللازم دلالته على ذلك المطلب عند المخاطب، خصوصاً إذا لم يكن معتقداً بحجّية أقوالهم; لأنّه لا يبقى للاستشهاد مجال بدون ذلك; لإمكان ورود الإشكال عليه بأنّ الآية لا دلالة لها على ذلك ، فمقام الاستشهاد يغاير مقام التعليل .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ التعليل المذكور الواقع في رواية تحف العقول بالإضافة إلى عدم جواز بيع شيء من وجوه النجس، من أنّه منهيّ عن أكله وشربه وإمساكه، وأنّ جميع التقلّب فيه حرام، إن احتمل أنّه من التعليل بالعلّة الارتكازيّة كالمثالين المذكورين ، فمن الواضح العدم بالإضافة إلى المتنجّس; لعدم ثبوت الارتكاز، بل عدم ثبوت تلك الاُمور في المتنجّس; لجواز الإمساك والتقلّب واللبس في غير حال الصلاة، وإن كان تعليلاً تعبّدياً، فشموله للمتنجّس أوّل
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، المياه: 49.
- (2) وسائل الشيعة 1: 140 ـ 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب3 ح10 و 12، وص170ـ 172 ب14 ح1 ، 6 و 7.
- (3) تهذيب الأحكام 1: 8 ح11، وعنه وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء ب1 ح1.
(الصفحة 63)
الكلام; لأنّ الكلام في مقتضى الأصل الأوّلي، والعمدة ما ذكرنا من أنّ عنوان وجوه النجس لا يشمل المتنجّسات، ولذا لم يعدوها في العناوين النجسة، كما لايخفى .
ومنها : رواية السكوني الواردة في المرق المتنجّس; وهي ما رواه عن جعفر، عن أبيه(عليهما السلام)، أنّ عليّاً (عليه السلام) سُئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة ؟ قال : يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل(1) .
والجواب عن الاستدلال بها عدم الانطباق على المدّعى، فإنّ المدّعى الدلالة على عدم جواز الانتفاع بالمتنجّس، والدليل يدلّ على عدم جواز الانتفاع بمثل المرق المتنجّس، كالسكنجبين المذكور في المتن، والوجه فيه: عدم جواز الانتفاع به بدون الطهارة وتوقّفه عليها، وخروجها عن عنوانه الأوّلي في صورة الاستهلاك في الكرّ ونحوه، كما سيأتي الكلام(2) في وجه عدم الجواز في مثل السكنجبين، فلا تعمّ جميع موارد المدّعى حتّى القابل للتطهير غير المتوقّف جواز الانتفاع به على الطهارة.
وبعبارة اُخرى: يكون مبنى الاستدلال على إلغاء الخصوصيّة من المرق بالإضافة إلى جميع المتنجّسات، مع أنّه مورد للقبول بالنسبة إلى المتنجّسات التي تكون مثل المرق من عدم القابليّة للتطهير وتوقّف جواز الانتفاع به على الطهارة، لا بالنسبة إلى الجميع كما هو المدّعى .
هذا، مضافاً إلى أنّه ربما يستشكل في اعتبار ما رواه النوفلي، عن السكوني وإن كان السكوني عامّياً ثقة وله روايات كثيرة عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) ، والظاهر أنّ أكثر رواياته بل جميعها تكون منقولة عن جعفر (عليه السلام) ، ومشتملة على نقله
- (1) الكافي 6: 261 ح3، تهذيب الأحكام 9: 86 ح365، الاستبصار1: 25 ح62، وعنها وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف والمستعمل ب5 ح3.
- (2) فى ص 69.